النار ترمز إلي الروح كما ترمز إلي اللاهوت (2)
وكان الرب يظهر لحزقيال النبي في منظر النار هذه, وكذلك ليوحنا الرسولي في سفر الرؤيا.
يقل حزقيال النبي إنه رأي عرش الله وعلي شبه العرش شبه كمنظر إنسان عليه من فوق.. كمنظر نار داخله من حوله, من منظر حقويه إلي فوق, ومن منظر حقويه إلي تحت, رأيت مثل منظر نار, ولها لمعان من حولها (حز1:26, 27), (حز8:2).
والقديس يوحنا الحبيب يقول عن رؤياه للرب: وعيناه كلهيب نار, ورجلاه شبه النحاس النقي كأنهما محميتان في أتون.. وجهه كالشمس وهي تضئ في قوتها (رؤ1:14-16). ننتقل من كل هذا إلي نقطة أخري وهي:
كان قبول الرب للذبائح والمحرقات, يكون عن طريق النار التي تأكلها.
المحرقات تشمل أمرين مهمين, هما الدم والنار, كان الدم يرمز إلي الثمن المدفوع, والنار ترمز إلي قبول الله لهذا الثمن. وهكذا كانت نار المذبح تتقد عليه, نار لا تطفأ, حتي تحول ذبيحة المحرقة إلي رماد (لا6:9).
وحدث هذا في المحرقات التي قدمها إيليا النبي, وصب عليها ماء متحديا أنبياء البعل والسواري فسقطت نار الرب, وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة (1مل18:38).
ونفس الوضع في تقدمة جدعون اللحم والفطير.. يقول سفر القضاة: فصعدت نار من الصخرة, وأكلت اللحم والفطير (قض6:21).
وخروف الفصح كان مشروطه أن يكون مشويا بالنار (خر12:9). هنا لم تأكله النار, لأنه ليس محرقة, ولكن يكفي أنه كان مشويا بالنار.
هذه النار كلها كانت ترمز إلي العدل الإلهي:
العدل الإلهي يستوفي عن طريق النار تأكل المحرقة كلها, فإن حولتها إلي رماد, يكون الله العادل قد استوفي حقه كاملا, كرمز تم في ذبيحة المسيح.
وهكذا قيل عن المحرقة والذبائح التي قدمها سليمان في يوم تدشين الهيكل: ولما انتهي سليمان من الصلاة, نزلت النار من السماء, وأكلت المحرقة والذبائح, وملأ مجد الرب البيت (2أي7:1).
وكما كانت النار تشير إلي روح الله, كذلك كانت تشير إلي الأرواح المحيطة بالله أي الملائكة.
وهكذا قيل عنهم في سفر المزامير: الذي خلق ملائكته أرواحا, وخدامه نارا تلتهب (مز104:4), كذلك حدث لما أحاطت جنود الأرميين بمدينة دوثان, حيث كان يوجد أليشع النبي, وأراد الرب أن ينقذه منهم إذا بالجبل مملوء خيلا ومركبات نار حول أليشع (2مل6:17). وكان هؤلاء هم الملائكة السمائيون الذين أتوا لحمايتها.
والمركبات النارية هي التي حملت إيليا النبي إلي السماء.
تبع أليشع النبي معلمه وأباه الروحي إيليا النبي.. وفيما هما يسيران ويتكلمان, إذا مركبة من نار, وخيل من نار, ففصلت بينهما, فصعد إيليا في العاصفة إلي السماء (2مل2:11).. ماذا كانت هذه المركبة النارية سوي جماعة من الملائكة حملوه إلي السماء, لأنها من المستحيل أن تكون نارا مادية.. بل إنها من أولئك الذين قال عنهم المزمور: وخدماه نارا تلتهب (مز104).
فلنسمتع إذن إلي ما يقوله دانيال النبي عن رؤيته لعرش الله:
يقول: عرشه لهيب نار, وبكراته نار متقدة. نهر جري وخرج من قدامه ألوف ألوف تخدمه, وربوات ربوات وقوف قدامه (دا71:9, 10).
إنه ليست نارا مادية بالطبع أتراه ما قيل عن الرب إنه الجالس فوق الشاروبيم (مز99:1).
أتراها الملائكة تحمل عرش الله؟ أم تري عرشه هو الملائكة؟ أم هو المجال الروحي العالي غير المدرك؟!! ليتني أعرف هذا اللهيب النار..
النار أيضا تطلق علي كلام الله, في حرارته, وفي فاعليته, إذ يلهب القلوب.. وهكذا ورد في سفر إرمياء النبي: أليست هكذا كلمتي كنار, يقول السيد الرب (إر23:29).
وقال الرب لإرمياء النبي: هأنذا جاعل كلامي في فمك نارا (إر5:14). ويختبر إرمياء هذه النار فيقول عن كلام الرب إليه: فكان في قلبي كنار محرقة (إر20:9).
حقا, إن الذي يأخذ كلاما من الروح القدس الناري, يكون هذا الكلام نارا في قلبه, ونارا في فكره, وعلي لسانه, يشغله ويشعل سامعيه.
ألعل السيد المسيح قصد هذا المعني حينما قال: جئت لألقي نارا علي الأرض, فماذا أريد لو اضطرمت (لو12:49).
جاء يلقي الروح الناري في الناس, الألسنة النارية التي تستقر عليهم, الكلام الناري الذي يخرج من أفواههم, الخدمة النارية الملتهبة بالروح.. الملكوت الذي انتشر كنار تسري..
هكذا يكون الخدام, وهكذا قال القديس يوحنا الرائي عن الزيتونتين والمنارتين القائمتين أمام رب الأرض: تخرج نار من فمهما (رؤ11:4, 5).
النار للمنفعة والبناء, وأيضا للعقوبة.
وهكذا عاقب الرب سادوم بنار أحرقتها (تك19). وقيل في سفر العدد عن تذمر بني إسرائيل: وسمع الرب فحمي غضبه, واشتعلت فيهم نار الرب, وأحرقت طرف المحلة (عد11:1).. والأمثلة كثيرة..
ومن أمثلة ذلك أيضا النار الأبدية (مت25:41), نار جهنم (مت5:22), والبحيرة المتقدة بنار وكبريت (رؤ14:10), (رؤ20:10), والنار التي تحرق الزوان (مت13:40), وأتون النار (مت13:50).
كذلك نفرق بين نار الرب والنار الغريبة:
لقد عاقب الرب من قدم نارا غريبة (لا10:1, 2), (عد26:61), ومن الناحية الروحية نقول:
أخطاء اللسان شبهت بنار, فقال معلمنا يعقوب الرسول: اللسان نار, عالم الإثم.. الذي يدنس الجسم كله, ويضرم دائرة الكون, ويضرم من جهنم (يع3:5, 6).
وقال سليمان الحكيم عن خطية الزنا: أيأخذ إنسان نارا في حضنه ولا تحترق ثيابه؟! أو يمشي إنسان علي الجمر ولا تكتوي رجلاه؟! (أم6:27, 28).