عندما قرأت مقال الدكتورة عزة شرارة بيضون “صحة النساء النفسية فى محطات ثلاث” المنشور فى موقع صوت النسوة(http://www.sawtalniswa.org/category/opinions)، تبادر إلى ذهنى مجددا السؤال المنهجى حول موضوعية علم النفس كفرع معرفى. إننا نذهب إلى عيادات الصحة النفسية، أو نطلب دعما نفسيا من متخصصين، فهل ما يقدمونه لنا يرتكز على أرض صلبة بالمعنى العلمى. إن مقال د. عزة شرارة، وهى المتخصصة فى علم النفس، يتناول هذه المسألة المنهجية من منظور الصحة النفسية للنساء. فهى ترى أن السياق الثقافى والاجتماعى المسبب للضائقات النفسية للنساء يلقى بظلاله على الديناميات التى تحكم الوضعية العلاجية، وعلى العلاقة بين ملتمسات العلاج أو الدعم النفسى ومقدميه من أطباء ومحللين ومعالجين نفسيين. فالسياق الثقافى والاجتماعى يظل هو المجال التطبيقى للمناورات العلاجية سواء، والتى قد لا يكون أمامها سوى تقديم العون والمشورة من أجل التكيف مع شروط السياق وليس تجاوزه، وهنا نجد أنفسنا أمام معضلات حقيقية، قد تثير شكوكنا إزاء التدخلات العلاجية وأساليب الدعم النفسى.
فمن ناحية أولى، هناك دائما تساؤل يتعلق بالتحيز والتجرد من قبل الأطباء والمعالجين والمحللين النفسيين. إلى أى حد يؤثر عليهمالسياق الثقافى والاجتماعى، فيشكل معتقداتهم ومنظوماتهم القيمية والأخلاقية؟ وهكذا تكون فكرة الحياد غير موضوعية، وخاصة وأن مجال الصحة النفسية هو الأكثر حساسية للمؤثرات الثقافية والقيمية والاجتماعية، وبقدر ما يدخل العامل الذاتى بقدر ما تتزايد المخاوف من وجود معامل خطأ. صحيح أن العامل الذاتى قد يؤثر بالإيجاب ولكن يظل هناك درجة من الهشاشة الموضوعية والعلمية بسبب هذا العامل الذاتى، وهو سلاح ذو حدين فقد يفيد وقد يضر. وإذا أردنا تشبيه هذه الوضعية بوضعيات أخرى، يمكن أن نستدعى فكرة السلطة التقديرية للقاضى فى منظومة العدالة، ففى كثير من الحالات يكون هذا العامل الذاتى المتمثل فى السلطة التقديرية للقاضى مدخلا لتقديرات أخلاقية وأحكاما قيمية تؤثر على مبدأ العدالة.
ومن ناحية ثانية، تحدثنا د. عزة شرارة، عن نواقص التدخلات العلاجية، سواء بالأدوية والعقاقير من قبل الأطباء، أو من خلال المعالجين بالكلام. فى الحالتين يفرض السياق الثقافى والاجتماعى شروطه على الوضعيات العلاجية، فيضع حدودا قد يصعب تجاوزها. فمن يعالج بالأدوية والعقاقير يستهدف “ترميم” الحالة من خلال تهدئة الأعراض المرضية والعودة بالحالة إلى وضعيات سابقة على حدوث الضائقة النفسية، وقد يكون هذا أقصى ما يتمناه المعالج، فلا يريد الذهاب أبعد من ذلك.
أما المعالجون بالكلام فيميلون إلى تلك الاستراتيجية الإشكالية أى الحياد، فعلى من تطلب الدعم النفسى أن تقرر بنفسها ما تريد وما ينبغى أن يكون. وكما تقول د. عزة فإنهم يحرصون على تحييد أنفسهم واحترام حدود من تلتمس الدعم النفسى، ويحصرون نشاطهم العلاجى بما يطلقون عليه “إعادة تربية الملتمسة” أو “إعادة إنشاء” شخصيتها، بقصد التعامل مع واقعها بالطريقة التى ترتئيها هى. ويذكرنى هذا بما قاله الدكتور مصطفى صفوان فى مقدمة كتابه “الكلام أو الموت”، عندما سأل أستاذه جاك لاكان، مؤسس التحليل النفسى، قائلا: “ولكن يا سيدى، هذا الشاب [أعنى المريض الذى كنت مهتما به حينذاك] يأتى لرؤيتى مرتين أو ثلاثا أسبوعيا ويروى لى كمية من القصص، ويدفع لى ثم يغادر، ماذا يتعين علىَ أن أعطيه بالمقابل؟ وكان الجواب [رد جاك لاكان] على ذلك: لماذا؟ إنك تعطيه صمتك”.
وترى د. عزة أن تهدئة الأعراض المرضية والنفسية، أو اتخاذ موقف حيادى قد لا يجدى كثيرا، وأن استراتيجيات علاجية فعالة تتطلب التعامل مع الشروط الاجتماعية والثقافية المسببة للضائقات النفسية للنساء، وعدم اتخاذ مواقف حيادية إزاء التمييز والعنف ضد النساء، وهنا تتحدث عن الحراك الاجتماعى النسوى وديناميات الدعم النفسى التى يمكن أن توفرها أطراف (غير حيادية)، فالصحة النفسية للنساء ليست من اختصاص المهنيين فقط. وفى الحقيقة أن فرضية د. عزة شرارة لا تبدد حيرتنا وشكونا، نحن من غير المتخصصين، فإذا كنا على يقين من أن العلاج بالأدوية ليس السبيل الأمثل، فإن مسالة الحياد الذى يدعيه المهنيون تظل إشكالية، فهل المشكلة فى أن الحياد هو مجرد إدعاء، وبالتالى فنحن نتطلع إلى حياد فعلى بالمعنى العلمى؟ أم أن الحياد فى حد ذاته فكرة حاطئة، وبالتالى فإن الصحة النفسية للنساء تتطلب كسر الحياد والانحياز لقيم داعمة لحقوق النساء؟وهل هذا ينطبق فقط على الصحة النفسية للنساء فقط، أم على الصحة النفسية بشكل عام؟