لقد حدث تطور في فكر المشتغلين بعلم الأرواح الذين يريدون تطبيعه في المجال الديني, دون أي إثبات من الكتاب.
المعروف أن روح الإنسان تصعد إلي الله بعد انفصالها من الجسد, كما ورد في سفر الجامعة عن الموت: يرجع التراب إلي الأرض كما كان, وترجع الروح إلي الله الذي أعطاها (جا12:7). وكما حدث مع اللص اليمين الذي قال له الرب: اليوم تكون معي في الفردوس (لو23:43).
ولكنهم قالوا -كما نشرنا في العد الماضي- إن الروح تحوم خلال الأيام الثلاثة لوفاتها حول المكان الذي ماتت فيه. أو الأماكن التي تحبها, إلي أن يأتي الأب الكاهن في اليوم الثالث فيخرجها من المكان بصلاة طاردة!! وقد ناقشنا هذا الموضوع.
إلا أنهم بعد كلامهم عن بقاء الروح إلي اليوم الثالث, بدأوا يتحدثون عن (رحلة أربعينية) للروح تذهب بعدها إلي مستقرها في مكان الانتظار!!
وذكروا تفاصيل كثيرة عما يحدث للروح خلال مدة الأربعين يوما التالية لانفصالها عن الجسد, فقالوا:
1- إنها تكون مع الملائكة خلال اليومين التاليين للوفاة, ويذهبون بها إلي حيث تريد علي الأرض.. فإن كانت محبة للجسد, تذهب مرة إلي الموضع الذي فيه افترقت عن جسدها, ومرة تمضي إلي القبر الذي دفن فيه الجسد.. تكون كمثل الطير الذي يطلب وكره. أما النفس الصالحة.. فتذهب إلي المواضع التي اعتادت أن تعمل فيها الخير..
2- في اليوم الثالث يأمر السيد المسيح أن ترفع النفس إلي السماء, فيقدمونها فتسجد أمام الله.
3- وبعد أن تسجد لله, يأمر أن يذهبوا بها ويروها سائر المواضع المفرحة التي للقديسين الذين في الفردوس, وهذا جميعه تشاهده النفس في ستة أيام من حين خروجها من الجسد, فتتعجب من ذلك, وتنسي الحزن الذي كان لها من مفارقة الجسد.
4- وبعد ستة أيام يقدمونها أيضا لتسجد لله في اليوم السابع.
5- ومن بعد السجدة الثانية يخرج الأمر من الرب الإله أن تنحدر النفس إلي الجحيم وتشاهد أصناف العذاب والظلمة التي فيها أنفس الخطاة المسجونة هناك.
وفي هذا المكان تدور النفس ثلاثين يوما في فزع ورعدة خائفة من أن يقضي عليها إلي مثل ذلك الموضع الرهيب.
6- وفي تمام أربعين يوما يصعدونها لتسجد لله أيضا. وحينئذ يخرج الأمر بأن يذهب بها إلي الموضع الذي تستحقه كأعمالها, وتثبت فيه إلي يوم البعث وقيامة الأجساد.
كل هذه الأفكار التي حولها المشتغلون بالأرواح إلي عقيدة, اعتمدوا فيها علي ميمر منسوب لشخص اسمه القس أنبا مقارة تلميذ القس الأنبا مقاره الإسكندراني, من إحدي المخطوطات.
لم يذكروا آية واحدة من الكتاب المقدس تثبت أو تشرح هذا البرنامج الزمني الذي تسلك فيه الروح حسب اعتقادهم خلال الأربعين بعد الوفاة.
ولم يذكروا أي اقتباس من أقوال الآباء القديسين معلمي البيعة المعروفين يؤيد وجهة نظرهم.. ولم يذكروا الوضع اللاهوتي لكل ما ذكروه.
وهنا أحب أن أذكر حقيقة مهمة وهي:
نحن لا نستطيع أن نعتمد علي مثل هذه المخطوطات والميامر لإثبات عقيدة لاهوتية نقدمها للناس.
فما أكثر ما نسب إلي القديسين من أقوال لم يقولوها.
ويحتاج الأمر إلي تحقيق أمثال تلك المخطوطات ونسبتها إلي من انتسبت إليه من أسماء القديسين, وهذا ما لم يتم علي الإطلاق.
وما أكثر الخرافات التي وجدناها في ميامر ومخطوطات.
مثال ذلك ما يقولونه عن قداسات مشهورة وتوزيع القراءات فيها, بحيث يأتي بولس الرسول ويقرأ البولس! ويأتي يعقوب الرسول ويقرأ الكاثوليكون! ويأتي لوقا الرسول ويقرأ الأبركسيس! ويأتي داود النبي ويقرأ المزمور! ثم يأتي بطرس الرسول فيقرأ الإنجيل أو يلقي العظة! ثم يأتي السيد المسيح ويتمدد علي المذبح!!
فهل هذا كلام يمكن أن يصدقه عقل, مهما ورد في ميمر أو مخطوطة.
ومن أمثلة ذلك ميمر آخر عن القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين, يذكر أنه حضر قداسا في السماء, وأخذ تفاحة من ذهب, ولما نزل سلمها لتلميذه ويصا!!
من يصدق أن السماء, تقام فيها قداسات! بينما القداسات! تعطي عنا خلاصا وغفرانا للخطايا كما يقال في صلاة القداس الإلهي.. السماء لا يمكن أن تقام فيها قداسات لمغفرة الخطايا, وبهذه المناسبة قال القديس يوحنا الرائي عن أورشليم السمائية: ولم أر فيها هيكلا (رؤ21:32). وبالمثل يقال عن السماء حاليا.
وما قيمة (تفاحة من ذهب) في السماء؟!
لا التفاح ولا الذهب له استعمال هناك!!
نود في هذا المقال أن نسجل تعليقاتنا علي ما أسموه (الرحلة الأربعينية للروح بعد مفارقتها للجسد) لكي نثبت أن هذه الرحلة الوهمية لا تستند إطلاقا علي أي أساس عقيدي:
1- استندت علي ميمر نسبه إلي (أبومقاره الإسكندراني), وما أكثر الخيالات التي ترد في أمثال هذه الميامر -كما شرحنا سابقا- مما يدخلنا في موضوع الفلكلور وليس اللاهوت, مهما قيل عن وجود نسخ منها في بعض المكتبات.
2- ذكرت المخطوطة المذكورة أن القس أنبا مقاره تقابل في البرية مع ملاكين, ودار بينه وبينهما حوار طويل حول مصير الأرواح بعد خروجها من أجسادها, وقد نشر هذا الحوار في خمس صفحات!!
والمعروف أن الملائكة يأتون إلي البشر برسالات مختصرة جدا -كما في كل أسفار الكتاب المقدس- وتكون الرسالة في كلمات أو جمل قصيرة ولا يدخلون في حوار من خمس صفحات في 96 سطرا!! بأسلوب الحكايات..
3- بدأ الحوار بأن القديس وجد أمامه حيوانا ميتا منتنا, فغطي أنفه بعباءته من رائحة نتن الحيوان, ففعل الملاكان مثله!! فسألهما: هل تشمان نتن هذا العالم مثلنا؟, فقالا له: لا ولكن حينما رأيناك فعلت ذلك, صنعنا مثلك حتي لا ندينك!!.
فهل الملائكة يقلدون البشر في شئ يستحق الإدانة, حتي لا يقعوا في الإدانة؟! ثم ماذا يستوجب الإدانة إذا غطي القديس أنفه من رائحة نتنة؟!
4- سألهما القديس في المخطوطة: كيف تنزعوا أنفس الناس من الأجساد المؤمنة وغير المؤمنة بالرب؟!.
فمن قال إن الملائكة تنزع أنفس الناس؟!
هذا يذكرنا بما يقوله البعض عن ملاك الموت (عزرائيل)!! بينما لا تذكر في الكتاب المقدس إطلاقا أية إشارة إلي ملاك بهذا الاسم ولا بهذه المهمة!
قيل عن الناس تخرج أرواحهم وقيل تعود الروح إلي الله (جا12:7). ولم يذكر أن الملائكة تنزع أرواح الناس! بل قيل عن لعازر المسكين إنه -بعد موته- حملته الملائكة إلي حضن إبراهيم. أما الغني فمات ودفن (لو16:22). ولم يذكر أن الملائكة نزعت روح أي منهما.
5- ورد أيضا -علي لسان الملاكين- عن النفس الخاطئة: إن نتن رائحة أعمالها تظهر وهي بعد في الجدس.. والرسل الذين يأخذونها غير رحومين. وقالا عن النفس الصالحة: إن الرسل الذين يأخذونها أخيار رحومون!!
فمن هم هؤلاء الرسل: هل هم ملائكة أم شياطين؟ إن كانوا ملائكة, فلا يصح وصفهم بأنهم غير رحومين! وإن كانوا شياطين, فلا يجوز أن نسميهم رسلا!! الله لا يمكن أن يرسل شياطين!!
ثم إن عبارة أخذ الروح بعد موتها شئ, ونزع الروح من أجسادها شئ آخر..