يعتبر فيلم “إبن حميدو” للمخرج فطين عبد الوهاب أحد أفضل أفلام الكوميديا المصرية، وهو من إنتاج 1957. وكما هو معروف فقد جمع الفيلم مجموعة رائعة من الممثلين والممثلات: إسماعيل ياسين (إبن حميدو)، هند رستم (عزيزة)، زينات صدقى (حميدة)، أحمد رمزى (حسن)، عبد الفتاح القصرى (الريس حنفى) ، توفيق الدقن (الباز أفندى)، رياض القصبجى (الشاويش عطية)،حسن أتلة (عسكرى نقطة التفتيش) وغيرهم. وقصة الفيلم بسيطة للغاية، فهى ليست إلا قصة إثنين من رجال الشرطة (اسماعيل ياسين وأحمد رمزى) فى مهمة سرية للقبض على عصابة تهريب مخدرات فى منطقة العين السخنة والسويس، وخلال هذه المهمة نشأت علاقات عاطفية بين إبن حميدو وحميدة، وحسن وعزيزة. ورغم بساطة القصة، إلا أن أحداث الفيلم تكشف عن ثراء المواقف والشخصيات التى جعلت منه أحد علامات السينما المصرية، إنه أحد الأعمال الفنية التى تكشف عن أن الجمال يكمن فى التفاصيل.
ولسبب ما، كنت أفكر فى هذا الفيلم في سياق التفكير حول معنى الفن الهادف. فلو سألنا أنفسنا ما هو هدف أو رسالة فيلم “إبن حميدو”؟ ربما لا نصل إلى هدف أو رسالة واضحة. ولا أتذكر يوما أن الحوارات الكثيرة حول هذا العمل الفنى قد تطرقت إلى أى معنى عام، مثل دور رجال الشرطة فى مواجهة عصابات المخدرات، أو أن عملية التهريب كان آتية من جهة سيناء، وما يعنيه هذا من دور لإسرائيل (ربما). فما تبقى فى الذاكرة من هذا الفيلم ليس قصته، بل تفاصيله والتى أصبح لها دلالات ومعانى متعددة ومتنوعة. فمثلا لو أخذنا عبارة عبد الفتاح القصرى (الريس) حنفى “«كلمتى لا ممكن تنزل الأرض أبداً .. خلاص تنزل المرة دى.. إنما المرة الجاية». فهذه العبارة أصبحت مقولة مشهورة للتعبير الفكاهى عن موازين القوى ليست فقط على مستوى الذكورة والأنوثة، ولكن فى العديد من المواقف. وثمة عبارات أصبحت “إفيهات” مشهورة وشائعة فى المشهد الفكاهى المصرى مثل كلمات حميدة “إنسان الغاب طويل الناب”، والشاويش عطية “ما أشوفش وحش … ما أنا شفتك أهه”، وإسماعيل ياسين لحسن أتلة بنقطة التفتيش “فتشنى فتش”، وعبارات الباز أفندى “توفيق الدقن” فى العديد من المواقف. فما تبقى هى العبارات وليس الحكاية، وبمعنى آخر فقد أصبحت العبارات هى الحكاية.
لقد اشتهر مخرج فيلم إبن حميد “فطين عبد الوهاب” بأعمال كوميدية، قد لا يكون الهدف من ورائها إلا المتعة، وهى كذلك، ولكن جودة العمل الفنى تفرض شروطها كما هو الحال فى فيلم إبن حميدو، والذى بدا وكأنه يصنع ذاته من خلال شخصيات متعددة لكل منها جماله ورونقه الخاص. إننا لا ننطلق من بداية لكى نصل إلى نهاية، فكل مشهد هو بداية ونهاية، وكل مشهد يمكن أن يكون قطعة فنية مستقلة. تماما مثلما التصوير السينمائى الجيد، فلا توجد صور كلية وشاملة، وإنما صور متعددة، ويصل التصوير إلى درجة الإبداع، عندما يكون تعاقبا للوحات فنية، فالتوقف عند أى نقطة فى المشهد يعطى لوحة فنية مستقلة. إن الفن هو فن التفاصيل إنه الألوان المتعددة التى تتشكل منها اللوحة الفنية الكلية، إن التفاصيل هى التى تصنع الحكاية وليس العكس. ولذا فإن الحكايات الكبرى قد تغيب عن الوعى أو تستقر كمشهد خارجى، كشئ يمكن أن نحكيه، أما التفاصيل فإن تبقى فى الذاكرة كشئ يمكن أن نعيشه، لتصبح كل تفصيلة حكاية فى حد ذاتها، ويتجلى إبداع التفاصيل عندما تصبح أكثر من مجرد حكاية، بل حكايتنا.