إن ما نراه هذه الأيام من ظواهر فاسدة منحرفة في مجتمعنا المعاصر ما هو إلا نتيجة للفكر المظلم غير السليم .. والذي ينتج عنه الإرهاب في كل مكان وبين شعوب العالم أجمع .. نجد الإنسان تطحنه الماديات والضيقات والتجارب .. وتتقاذفه وسط الآلام والمشاكل والحروب .. ويمزقه الرعب الذي أصبح علامة هذا العصر.
ومع ميلاد عام ٢٠١٧ كم تهفو قلوبنا إلى السلام الحقيقي المبني على المحبة .. ذلك السلام الذي ترنمت به الملائكة تبشر بمولد يسوع المسيح .. رمزاً للميلاد الجديد للإنسان .. صارخة ” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة “.
أتمنى أن يكون هذا العام تسوده تلك المسرة التي تبعثها المحبة من الله .. ويعم السلام الذي يساعد على حل مشاكل شعوب العالم.
وفي عيد السلام والحب .. نقدم رؤية تاريخية وفنية لأيقونة الميلاد العجيب وسماتها الخاصة التي تميزت بالرمز الذي يدل على معان روحية ودينية.
وتلك الرموز إتخذها الفنانون وسيلة من وسائل التعبير عن خلجات النفس لإبداعاتهم الفنية .. فكان للخطوط والألوان قيمة خاصة في تصوير هذه الرموز وإظهار معانيها .. والتي نشأ بها الفن القبطي في الأديرة .. فشكلت الحضارة الإنسانية .. سواء كان نسيجاً أو حشوات خشبية أو فخار أو عمارة وغيرها من الفنون التي نراها ونعيش فيها.
والرموز في الفن ذات قوة دافعة إلى إبداع فني جديد .. حيث أن الفن القبطي ذو تراث عظيم، وتقاليد نابعة من الكنيسة القبطية وفن الأيقونة مرتبط بطقس الكنيسة والعقيدة الراسخة في نفوسنا إلى الأبد.
فالأيقونة ذات قيمة إبداعية وروحية عندما تدهن بزيت الميرون قبل وضعها بالكنيسة .. لتصبح مقدسة لأنها نالت بركة من الروح القدس .. وبذلك تشع منها الروحانية .. وتخلد على مدى الدهر.
هذا الإبداع الرفيع يثري الحياة الفنية المعاصرة .. ويجعل من الكنائس مركزاً ومزاراً للفن والدين معاً .. لأن تلك الإبداعات والأيقونات لم تكن مجرد زينات وزخارف .. إنما هي شواهد على تاريخ حضارة ذات روح خالدة .. وهذه الروائع هي جزء من كيان الكنيسة الأرثوذكسية.
والأيقونات التي رسمت للسيدة العذراء مريم ورحلتها مع الرب يسوع المسيح وميلاده العجيب .. والذي نحتفل بذكراه في أول كل عام .. نلمس في كل أيقونة الإحساس بالروحانية والبساطة في الخطوط والألوان .. وتجنب إظهار النواحي المادية.
ونلمس أيضاً في “أيقونة الميلاد” التكوين المحكم حيث شفافية اللون .. ومرونة الشكل وتنوعه وديناميكيته .. فالخطوط الرئيسية تتجه كلها نحو النور الذي يتوسط الأيقونة ويمثلها ميلاد السيد المسيح والعذراء مريم أم النور ذات الجمال القدسي رمزاً للنقاء والطهر والقداسة .. وهي تشير بإصبعها للطفل يسوع الراقد في المزود وأمامها “سالومي” ويقف القديس يوسف النجار .. وأعلى الرسم نجد الملائكة يسبحون الله .. وملاكاً منهم يبشر الرعاة.
كما نجد في الأيقونة المجوس الذين أرشدهم نجم من السماء إلى حيث ولد الطفل يسوع وأتى إلى العالم نوراً وضاحاً .. وموضوع الأيقونة يمثل القديسة العذراء مريم وطفلها يسوع ومن حوله المجوس ساجدين تمجيداً لمعجزة السماء .. نلمس فيها التعبيرات التي إرتسمت على وجوه كل المحيطين بالمولود نراها ونحس بها إحساساً بالغ العمق من خلال إبتسامة يوسف النجار وكل الوجوه الهلعة المحيطة بالعذراء والطفل يسوع يتسرب منها نور يلمس وجوه تلك الشخصيات وأطرافها لمساً رقيقاً .. يختلف في نوعه عن أي شعاع نور آخر ..و ”طوبى لمن نظر إليه وإستنار، لأنه لا يخزى.. “
أيقونة الميلاد غنية برموز كثيرة يحار في تفسيرها الكثيرون .. ممثلة في الهدايا التي قدمها المجوس للطفل يسوع وهي ”ذهب ولبان ومر“ ترمز في دلالتها إلى الصفات التي تكمن في الرب يسوع .. فالذهب رمزاً ل”ملك الملوك“ واللبان رمزاً ”للاهوت“ .. والمر دلالة على عذابات وآلامات يسوع المسيح الذي جاء من الروح القدس لينقذ العالم من خطيئة آدم .. ويمنح محبيه تاجاً سماوياً.
وهنا يعبر الفنان في لحظة درامية هي لحظة السجود لملك الملوك .. والمجوس يتطلعون إليه طالبين منه البركة والنعمة في حياتهم.
وأصبحت الأيقونات تمثل رموزاً معينة ومفاهيم دينية أضفت على إبداعات الفنانين غلالة من الروحانية.
ويعتبر ما عثر عليه من الأيقونات واللوحات الجصية التي كانت تغطي جدران الكنائس والأديرة في القرون الأولى للميلاد .. أرقى ما بلغه الفن القبطي في هذه الحقبة من التاريخ (بالتحديد القرنين الخامس والسادس الميلاديين) بل هي المنطلق الذي إستمر من فن الأيقونة فيما بعد ليزدهر في أوروبا وكل بلاد العالم.
وتتوالى المدارس الفنية بعد ذلك وحتى اليوم لكي تقدم معجزات الكتاب المقدس في أعمال فنية معاصرة لها قيمتها الفنية والفلسفية والدينية .. وقد إمتلأت بها جدران الكنائس والأديرة .. وإنتقلت إلى أبناء القصور حتى وصلت منها إبداعات علقت أيضاً على جدران بيوتنا سواء كانت مطبوعة أو مرسومة.
وفي مصر أبدع روادنا الأوائل روائع من هذا الفن “الفن القبطي” نخص منهم بالذكر الفنان الراحل راغب عياد وحبيب جورجي .. والمثال منصور فرج وفناني الأيقونة إيزاك فانوس ويوسف نصيف وبدور لطيف .. ويوسف جرجس عياد ، ومجدي ميخائيل .. وعادل نصيف وجرجس لطفي ومجدي وليم .. وڤيكتور فاخوري وسميرة لمعي …وغيرهم من أجيال فناني الأيقونة القبطية الذين حملوا من بعدهم هذه الأمانة .. لتكون بصمة وإشارة مثمرة للمستقبل ليعيش ويزدهر الفن القبطي .. ويثري الحركة الفنية المصرية المعاصرة.
والسيد المسيح له المجد جاء ليخلص العالم كان يجول يصنع خيراً .. ويشفي كل مرض وضعف .. وكان ينشر الحب والخير والسلام في كل مكان .. مطوباً صانعي السلام قائلاً ..”طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون“ .. أرجو من قادة العالم في ذكرى الميلاد العجيب أن يتعاونوا على البر ونشر السلام والمحبة في أرجاء المسكونة ويساعدوا كل المنكوبين ليرجعوا إلى وطنهم.
وأتضرع إلى وليد بيت لحم يسوع المسيح ملك السلام في بداية هذا العام أن يمنحنا سلامه الذي يفوق كل عقل .. سلاماً لكل مكان في العالم .. وسلاما لوطننا مصر وأيضاً لكنيستنا القبطية ويحمينا من كل شر .. فما أجمل أن يعم السلام جميع أنحاء العالم .. وكل سنة وشعب مصر في خير وأمن ورخاء.