من بين ما نعيشه ونشهده من تشريعات وسياسات تفتقر إلى العقلانية والحرص على الصالح العام، تابعنا الأخبار المتعلقة بإقرار قانون الجمعيات الجديد من قبل البرلمان والذى سيؤدى بكل بساطة إلى تضييق الحيز المدنى الذى نما فى ظل صعوبات كبرى منذ عقود. وبالطبع فإن التبريرات جاهزة، بمعنى أن قانون الجمعيات يهدف إلى حماية الأمن القومى والسيادة الوطنية فى مواجهة العدو التاريخى المسمى بالمجتمع المدنى. ولا شك أن قوانين الجمعيات الأهلية لم تكن يوما منصفة، ولكن ثمة جديد يتعلق بهذا القانون، ولست بصدد مناقشة مواد قانون الجمعيات الجديد لأن هذا الأمر متروك لأهل الاختصاص، ولكن تجدر الإشارة إلى جانبين يتعلقان بطريقة إصدار هذا القانون ويشكلان خطورة على الدولة ذاتها والتى يعد المجتمع المدنى أحد مكوناتها الأساسية.
فمن ناحية أولى، من الواضح أن القانون الجديد لا يعبر فقط عن السائد فى التشريعات المتعلقة بالجمعيات الأهلية منذ الفترة الناصرية، أى تقييد العمل الأهلى، بل من الواضح أنه ينطوى على نزوع جديد ينسجم مع التوجهات القائمة وهى والتى ترتكز على الوأد والانتقام أكثر من التقييد والتحجيم. فثمة عداء واضح لكل ما هو أهلى أو مدنى، وكأن السلطة، بضيق أفق، تتصور أو تتوهم أن المرحلة القادمة تتطلب التخلص من أى مساحة للعمل المستقل أو التعبير الاجتماعى عن مصالح المواطنين وقضاياهم. وقد مهدت السلطة لذلك من خلال جملات مكثفة لشيطنة منظمات المجتمع المدنى وتشويه صورتها من خلال إشاعة معدلة كاذبة وهى أن المجتمع المدنى يقف فى مواجهة الدولة، وهذا الأمر غير صحيح على الإطلاق، لأن المجتمع المدنى جزء من الدولة بالمعنى الواسع، ومن مقتضيات الصالح العام، أن يلعب المجتمع المدنى دورا فعالا فى نقد سياسات وخروقات الحكومة أو أجهزة الدولة إذا ما تعارضت مع الصالح العام. ولكن المشكلة أن من هم فى السلطة يعتبرون أنفسهم والدولة سواء حتى لو اقتضى الأمر إقصاء مكونات الدولة الأساسية ومنها الدستور والمجتمع المدنى.
ومن ناحية ثانية، أن عملية الإقصاء التى صاحبت إصدار القانون لم تستهدف فقط المجتمع المدنى فى الممحصلة النهائية، ولكن ثمة مؤشر على أن نهم الاقصاء طال مؤسسات الدولة ذاتها، فكما تم التداول فى الأخبار، فإن البرلمان لم يلتفت، وربما البعض من أعضائه لا يدرى، بأن وزارة التضامن الاجتماعى أعدت مشروع قانون للجمعيات الأهلية تم تجاهله تماما، فلا الوزارة علمت بما يعد فى الخفاء ولا البرلمان اهتم بما تعده الوزارة. وهكذا فإننا لا نعرف أين تكمن الدولة أو السلطة. وهل أصبحنا نعيش فى ظل دولة ضد الدولة والمجتمع معا؟
للأسف، إن ممارسات من هم فى السلطة باتت الخطر الأكبر الذى يهدد تماسك الدولة. فلو تصورنا أن الدولة مساحة واسعة تتسع لكل مكوناتها، فإن الممارسات السائدة تخلق شروخا وفجوات بالمعنى السياسى والاقتصادى والاجتماعى، وهى شروخ وفجوات لا تلتئم بل تزداد إتساعا لأن أدوات الترميم هى ذاتها التى تزيد الفجوات وتعمقها. وأى عاقل يعرف تماما أن هذه الفجوات هى الكهوف المظلمة والتى قد تكون مقبرة للقوى المدنية والاجتماعية، ولكنها أيضا ستكون المرتع الخصب لأشباح العنف. فى الحقيقة أننا فى ظل هذا المناخ أصبحنا نخشى على وجودنا فى عالم تجاوزنا ويتجاوزنا بسبب الإصرار على فعل كل ما يجعلنا نتراجع عن مسيرة التاريخ بوتيرة أسرع مما كنا نعتقد. وأخشى أن تكون الأصوات التى تصرخ من أجل الصالح العام تضيع فى فراغ موحش، أصوات تخاطب الدولة وكأنها دولة، ولكنها فى واقع الأمر شئ آخر لا نعرفه ولا يعرفنا.