يعرف قاموس كمبريدج السوق السوداء بأنها: “التداول غير المشروع للبضائع التي لا يسمح بشرائها وبيعها، أو تلك التى لا تكفى لتلبية احتياجات كل شخص، مثلا أن يتم شراء الطعام من السوق السوداء وقت الحرب”. وباختصار فإن السوق السوداء تعبير عن مجال غير شرعى، من المفترض أن ينشط بشكل استثنائى فى حالة الأزمات وفى أوقات الندرة، ولكن عندما تكون الأزمات هى الحالة السائدة وليس الاستثناء، فمن الطبيعى أن تكون السوق السوداء هى الواقع، وتختل الموزايين بين ما هو شرعى وما هو غير شرعى، تماما مثل الفساد والرشوة فى كافة المعاملات الرسمية وغير الرسمية والتى تحولت لأن تكون القاعدة وليس الاستثناء.
أقول هذا بعدما احتلت السوق السوداء موقع الصدارة فى مصر خلال الفترة الماضية سواء فيما يتعلق بأسعار صرف الجنيه مقابل الدولار والعملات الأخرى، أو فيما يتعلق بأزمة السكر وقبلها ألبان الأطفال إلى غير ذلك من أمور معروفة للكافة. وفى كل الحالات، فإن الوضع الاستثنائى المتمثل فى السوق السوداء يفرض ذاته ليصبح هو القاعدة، حيث تم الاعتراف رسميا بانخفاض قيمة الجنيه، ورفع سعر السكر، ومع إرتفاع أسعار المحروقات سوف ترتفع كافة الأسعار. وفى ظل غياب القواعد المرتبطة بالعدالة الاجتماعية والعقلانية فى تسيير الأمور، فإن الأزمات ستظل موجودة، وإن لم تكن موجودة فسوف يتم افتعالها، لتصبح السوق السوداء هى القاعدة فى كافة المعاملات، وكأننا نعيش فى مجتمع السوق السوداء.
وفى الحقيقة أن المسألة ليس مجرد أزمات عابرة تؤدى إلى نشاط هامشى للسوق السوداء، بل هى أزمات هيكلية ومزمنة تعطى طاقة متجددة للسوق السوداء، وهى أزمة نراها فقط فى أسعار السلع، ولكن فى المعاملات وفى مقدمتها المعاملات الرسمية، فهناك دائما حيز غير شرعى لتسيير الأمور والمصالح، فكل حيز رسمى أو شرعى يجاوره ويتفاعل معه حيز غير شرعى معترف به ضمنيا. وليس غريبا أن يتم تأزيم المعاملات الرسمية، لأن التأزيم له قيمة وظيفية لخلق المسارات الموازية وتنشيطها. أما فيما يتعلق بندرة السلع فإن الوضع مركب وله جوانب متعددة، فالندرة لا تعنى فقط نقص السلع، بل تعنى كذلك إفتعال الأزمات، لرفع أسعارها، أوعدم قدرة فئات عديدة على شرائها بسبب الفقر أو ضعف الدخول، وفى هذه الحالة الأخيرة تكون آليات السوق السوداء مختلفة، كأن يتم شراء السجائر الفرط أو حبات المضاد الحيوى بسعر أعلى بسبب عدم القدرة على شراء العبوة كاملة، والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها شراء السلع نظام التقسيط المجحف، فدائما ما يتم دفع قيمة أعلى من القيمة الحقيقة للأشياء.
وكما أن هناك سوق سوداء فى مجال السلع والمعاملات، هناك أيضا سوق سوداء فى مجال الأفكاروالقيم. والكل يعلم الفشل البين فى القدرة على تحرير العقول وإرساء قيم العقلانية، والنتيجة وجودأسواق سوداء للأفكار لا يضبطها العلم ولا التفكير العقلانى، وهى أسواق فى منتهى الخطورة لأن تحض على العنف والكراهية ولها زبائن ومستهلكين. فالبشر باتوا يدفعون من وقتهم ومشاعرهم وربما أموالهم مقابل الجهل والتجهيل. إنها أزمة الأطر “الشرعية” للعقلانية والتفكير والتى تفتح الباب أمام أسواق سوداء للتفكير.
وفى الختام تجدر الإشارة، إلى أن محاولات الإصلاح التى بشرت بها الهيئات الدولية على مدار السنوات الماضية لم تؤت ثمارها بسبب خلل أساسى فى مفهومها للإصلاح. فقد اعتمدت هذه الهيئات مفهوما أساسيا يقوم على فكرة إدماج الهوامش فى التيار الرئيسى للمجتمع، وكأن هناك تيار رئيسى عقلانى قادر على إدارة المجتمع نحو الإصلاح، مع أن الحقيقة المرة هو أن هذا التيار الرئيسى هو أساس المشكلة لأن لا عقلانيته أدت وتؤدى إلى خلق الهوامش والأسواق السوداء، ناهيك عن الاستفادة منها. وبالتالى فإن التحدى الصعب والذى لا بديل عن مواجهته هو كيفية إصلاح ما يسمى بالتيار الرئيسى الذى يتغذى على الندرة والأزمات، ويصبح قوة طاردة تخلق الهوامش والفقر والعنف.