بالرغم من مرور 43 عاماً على نصر أكتوبر 1973؛ إلا إننا مازلنا نتوق لسماع أحداث النصر مراراً وتكراراً؛ سواء من خلال مشاهدة الأفلام السنيمائية أوالوثائقية عنها.
كما نشتاق أيضاً لسماع أحاديث الأبطال المحاربين الذين شاركوا في هذا النصر العظيم الذين قالوا الكثير والكثير عنها؛ إلا أنه مازالت توجد العديد من الأسرار والأحداث والقصص التي لا نعلمها عن الحرب؛ فتلك الأحداث هي التي لا يعرفها سوي الشخص المحارب فقط الذي عاش لحظات الحرب و واجهها بكل شجاعة، فلو تحدثنا مع كل شخص شارك في 73 سنشعر بأن مصر قد أقامت حرب ألاف المرات بعدد جنودها الذين شاركوا فيها، ومازال كل محارب سواء كان قائد كتيبه أو مجند؛ يحتفظ بحربه ونصرته الخاصة التي عاشها بنفسه، فالعديد من جنود مصر ضحوا بحياتهم من أجل الدفاع عن ترابها ؛ ومنهم من أستشهد في الحرب وماتت معه قصة جهاده في مواجهة العدو؛ ومنهم من عاش علي مر تلك الأعوام وسرد أحداثها لأبناءه وأسرته ثم رحل ؛ وبالتالي فقد خسرنا معرفة أسرار وأحداث جديدة وقصص بطولية عظيمة
لذلك سعت وطني إلي معرفة تلك الأسرار التي عاشها بطلنا المُلقب بـ ” الشهيد الحي ” علي أحداث حرب الكرامة؛ لكي نتعرف علي قصة حربه الخاصة، وذلك من منطلق أن الإعلام يركز فقط علي الإلتقاء بالقيادات العُليا اللذين شاركوا في الحرب، وأهمل الجندي الذي كان له الفضل الأول في تنفيذ المهام الصعبة والانتحارية؛ الذي كان يتلقى الأوامر من القادة بالرغم من إدراكه لحتمية إنتهاء حياته في أي لحظة. من لحظات تنفيذ تلك المهام المكلف بها من قائده.
وقد إنتقلت “وطني ” لتنقل لكم قصة الشهيد الحي ” جادالله نصيف إبراهيم المجند بسلاح المهندسين؛ الذي نال شرف المحاربة والمشاركة في نصر 6 أكتوبر 73؛ وذلك أثناء فترة تأدية خدمته العسكرية التي بدأها في 18/9/1972وأنهاها في1/1/ 1975
وبدأ الشهيد الحي حديثه قائلاً: ” بالرغم من مرور 43 عاماً علي حرب أكتوبر، ولكنني لم أنس قط الأيام واللحظات التي عشتها في حرب 73 وكأنها قد حدثت بالأمس، فقد كان لتلك الفترة الفضل في تشكيل شخصيتي التي أنا عليها الأن، وقد تركت في بصمات لم ولن تزول مهما طال العمر”.
وسرد المقاتل جادالله أحداث ما قبل الحرب بأيام قليلة قائلاً : ” عند بداية دخولي الخدمة العسكرية في سلاح المهندسين؛ كان يتم تدريبنا على إزالة الألغام ، ثم تم نقلي للتدريب في فرقة الأستطلاع لمدة أسبوع؛ بعدها تم إختيار مجموعة من فرقتنا؛ لتكوين مجموعة فنية، حيث تم نقلنا لمركز التدريب المهني للتدريب على كيفية إستخدام ماكينات ضخ المياه؛ التي أستخدمت فيما بعد بالحرب؛ حيث أستمرت مدة التدريب 40 يوماً؛ بعدها تم نقلنا لمنطقة القناطر الخيرية، وهناك قمنا بالتدرب علي إستخدام تلك الماكينات في مياه القناطر وكان يتم تدربنا علي كيفية عمل معابر في الساتر الترابي؛ التي قام الجيش بإنشاءه خصيصاً لتدريب الجنود على المعايشة الحية للحرب”.
وأسترسل جادالله قائلاً: ” لقد كنا علي أتم الأستعداد للحرب، وكنا نشتاق ونتساءل متي سنقوم بالحرب لإستعادة أرضنا المغتصبة، ولم نكن نعلم ميعاد الحرب حتي اللحظات الأخيرة من بدءها.
وبعد إنتهاء فترة التدريب في القناطر الخيرية؛ تم نقلنا لمركز تدريب الكباري بحلوان؛ ثم نقلنا في عربات دون أن نعلم أين نحن أو أين تتجه بنا العربات؛ وعندما وصلنا فوجئنا إننا على أرض السويس كان ذلك قبل بدء الحرب بعشرة أيام
وظللنا في حيرة من الأمر؛ وكنا نتساءل عن سبب وجودنا في السويس؛ ولكن كان الرد بأن الجيش المصري يقوم بعمل تدريبات في تلك المنطقة بصفة مستمرة؛ وهو مجرد مكان للتدريب فقط، وكان ذلك بمثابة تمويه للعدو بأننا نتدرب في تلك المنطقة وأعتادوا جنود نقاط الحراسة الأسرائيلية على رؤية الجنود المصريين في تلك المنطقة للتدريب بصفة مستمرة ؛لدرجة أنهم كانوا يتحدثون إلينا مستهزئين ضاحكين لما نقوم بفعله في التدريب، فقد بدأت الحرب في سرية تامة ويرجع ذلك لحكمة القيادات العسكرية في ذلك الوقت”.
وتحدث الجندي “جادالله ” عن فترة التدريب في منطقة السويس قائلاً : ” كنا نقوم بحفر خنادق برميلية وخنادق مواصلات لأستخدامها في الحرب وبعد الأنتهاء من حفر عدد من الخنادق؛ كان القائد يأمرنا بحفر خنادق أخرى بحجة أن العدو قد كشف مواقع تلك الخنادق؛ وبالفعل كنا نقوم بحفر خنادق أخري في أماكن مختلفة.
وظللنا نحفر الخنادق والسرادب إلى أن وجدنا أنفسنا علي حواف مياه شاطئ قناة السويس مباشرة، وقد كانت لتلك الخنادق أهمية كبري للحرب في حماية الجنود من النيران والشظايا المتطايرة أثناء مرورهم لموقع بدء الحرب ووصولهم بأمان. كما أستطعنا بحفر تلك الخنادق؛ الوصول للموقع الذي ستبدأ فيه الحرب، فقد كان سلاح المهندسين هم أول من عبر القناة بعد الضفاضع البشرية التي تم أرسالها أولاً لتقوم بمهمة إبطال النابالم ” النابالم هو سائل هلامي (gel) يلتصق بالجلد، وهو قابل للاشتعال ويستخدم في الحروب”المزروع في القناة، فقد وضعت أسرائيل النابالم على سطح مياه القناه بهدف أشعال النيران لعدم إختراق القناة وعبورها، وقد قامت القوات المصرية بإبطال مفعولها .
وقبل بدء الحرب بدقائق قليلة؛ أمر قادة الجيوش ورؤساء الأسلحة بإفطار الجنود جميعاً؛ لأننا سنبدأ الحرب، وبعد ذلك فوجئنا بتحليق الطائرات المصرية الحربية في سماء القناة متجهة شرق القناه، في تمام الساعة الثانية إلا خمس دقائق.
وبصيحات الله وأكبر قمنا بإستخراج المعدات والماكينات والقوارب من أماكنها وأتجهنا بها إلى القناة وأستقلت الجنود القوارب الخاصة بهم؛ وقاموا بعبور القناة وتشغيل مضخات رفع المياه لتنفيذ مهمة فتح الساتر الترابي ،عن طريق ضخ المياه بواسطة الخراطيم لأعلى الساتر الترابي؛ وظل الجنود ممسكين بالمدافع المائية حتي صباح اليوم التالي للحرب” في عمل دائم دون توقف .
وقد كنا في ذلك الوقت تحت حماية هدير الطائرات المصرية والمدفعيات الذين قاموا بدك وتدمير النقاط الحصينة والمنيعة التي قهرت عزيمة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر في ستة ساعات فقط.
وبعدما قمنا بتنفيذ مهماتنا ونجاحها؛ أقامت فرق أخرى من الجنود؛ العديد من الكباري التي أستخدمت في عبور المعدات الثقيلة والمدافع والمصفحات وناقلات الجنود والدبابات، وذلك لتدعيم قوات المشاه التي سبقت وعبرت القناة .
بعد ذلك أسندت إلينا بعض المهام الأخرى منها تطهير المواقع الحصينة للعدو من الألغام التي قام الجيش المصري بتحريرها، وذلك بإستخدام المجصات البدائية لإبطال مفعول اللغم ونقله إلى مواقع التشوين الخاصة بها.
وبعد إكتشاف الجيش المصري لوجود ثغرة قامت بإختراق حدودنا المصرية بقيادة القائد الأسرائيلي “عساف ياجوري” الذي تم أثره فيما بعد؛ أنتقلنا لمواجهة تلك الثغرة وأثناء ذلك أصبت بشظية بجدار الصدر الأيمن وقام الجنود بنقلي للمستشفي الميداني بالجبهة، حيث تم عمل الأسعافات الأولية لي، وهناك رأيت العديد من الجنود المصابين بإصابات وكان ذلك مشهد لا أنساه قط في حياتي، فمنهم من كان مبتور الساقين ومنهم من فقد زراعه ومن كان مصاب بإصابات خطيرة، بعدها تم نقلي من المستشفى الميداني بالجبهة إلى مستشفى ألماظة العسكري ثم إلى مستشفى المعادي، كما تم تحويلي أيضاً إلى مستشفى حلوان التي أحتجزت بها مدة 22 يوماً لتلقي العلاج وخلال وجودي بالمستشفى؛ رأيت العديد من المتطوعات بمركز تجميع الجنود المصابين بالحرب للخدمة كممرضات.
وبعدما تعافيت من إصابتي تم عمل تصاريح لي ولزملائي بالخروج من المستشفى، وعند نزولنا للشارع؛ كان كل من يرانا بالملابس العسكرية يفاجئ ويسألوننا عن أحداث الحرب وكيف عشناها، وبالطبع كنا نروي بكل فخر تلك الأحداث العصيبة.
وعند وصولي أنا وزملائي لبلدتنا أستقبلتنا الأهالي بالزغاريد والفرحة لرجوعنا.
وكانت أهالي قريتي “جراجوس” يزورونني بإستمرار؛ لكي أقص عليهم أحداث الحرب التي عشتها؛ ومنهم من كان يريد أن يطمئن علي ذويهم الذين لم يعودوا معي وكانوا يتسألون أن كنت قد رأيتهم أم لا أثناء الحرب؟ ، وكنت أحاول طمأنتهم بأنهم سيعودون سالمين .
وطرحنا علي المقاتل “جادالله سؤال وهو: ” ماذا تقول للشباب الذين لم يشاركوا في حرب أكتوبر والذين يخافوا من دخول الجيش؟؟ .
أجاب قائلاً : أن التجنيد بالقوات المسلحة المصرية؛ هو شرف عظيم وإفتخار جليل لأنه يعتبر بمثابة مصنع للرجال، وأدعوهم بأن يعيشوا ويتعلموا روح حرب أكتوبر المجيد؛ التي كانت تهدف لإسترداد كرامة شعب مصر وعزتهم جميعاً من دون تفرقة.
وعبر ” جادالله ” عن أمنياته قائلاً : ” إن كل عام يمر علي وأتذكر فيه أحداث 6 أكتوبر؛ يأخذني الحنين لكي أعود إلى تلك الأماكن والمواقع التي حاربت فيها من أجل تحريرها، والأن كم أشتاق وأتمنى رؤية تلك الأماكن مرة أخري لكي أري ثمار سيل دمائي ودماء زملائي علي تلك الأراضي؛ التي لم أراها بعد أن تمت أصابتي فيها.
وأقول للأجيال القادمة وللشباب المصري ” لا تفرطوا في أرض وطنكم مهما إن كان، وإسعوا للحفاظ عليها، ولا تترك وطنك وتبحث عن وطن أخر؛
فقد حاربت أنا وأستشهد أحبائي وزملائي أمام عيني في الحرب من أجل أن تبقى بها وتعمرها أنت ” فلن يرعي أرضك غير ذراعك” فمن يحمي وطنك سواك؟؟!! إذا تركته لتعمر أوطان أخرى!!؟
وفي نهاية الحديث قام المقاتل “جادالله” بتوجيه التهنئة للسيد الرئيس عبد الفتاح السيسي والمشير صدقي صبحي قائد القوات المسلحة وكل القادة والجنود بالقوات المسلحة عامة؛ ووجه التحية لقائد سلاح المهندسين الذي كان له شرف الأنضام له في يوم من الأيام، كما هنئ شعب مصر بعيد 6 أكتوبر المجيد.