التضحية.. قدرة خارقة على العطاء، وهي عطاء بلا مقابل.ولا يستطيع أحد أن يدفع ثمنًا لتضحيات الآخرين، فالتضحية أثمن من كل بديل . وقد تندر التضحيات العظيمة في زمن سادت فيه الأنانية، وانشغل فيه الناس بمصلحتهم ومنافعهم الشخصية.
واعتاد الناس أن يدوسوا على أجساد غيرهم ليتسلقوا فوقرؤسهم . ومع ذلك فان التضحيات لها صور راقية لازالت تؤسر القلوب. ولعل أوضحها وأجلها الصورة المتكررة التي تحدث في كل لحظة حين يضحي الأمهات الفاضلات براحتهن وصحتهن وضروراتهن في سبيل الأبناء، كما يضحي الآباء أيضا ويبذلون جهدهم وأكثر من جهدهم لتوفير احتياجات بيوتهم المتزايدة.
لكن التضحية ليست قاصرة على التضحيات البسيطة، لكن هناك تضحيات عظيمة يقوم بها أصحاب القلوب الكبيرة من أجل الآخرين، فهناك من يسارعون بإلقاء أنفسهم في النار لإنقاذ غريب يحاصره الحريق، أو يطرحون أنفسهم في الماء لإنقاذ غريق، ويواجهون احتمال الموت.
ليس مطلوبًا من معظمنا أن نموت فعلًا من أجل الآخرين، لكن قد تكون أمامنا اختيارات لأن نفني حياتنا، أو نضحي بأنفسنا من أجل الآخرين.. فالتفاني والحب تضحية… حية ومتجددة.
ما هي التضحية الحية؟ أن تضحي، يعني أن تتنازل عن شيء له قيمته، من أجل هدف عظيم، أو هدف نبيل، أو مثل أعلى. مثل التضحية بالمال، أو الوقت، أو النفوذ، أو السلطان، أو حتى الهناء الشخصي، مثل الشاب الذي وهب حياته، وكل دخله المالي الضئيل من أجل تربية أبناء شقيقه المتوفي حتى كبروا، وتعلموا، وصار لكل منهم بيته وحياته المستقرة، بينما كان قد ضحى هو بالزواج وتكوين أسرة.
فالتضحية تتطلب الإيثار أي تفضيل الآخرعن النفس، والإيمان بهدف التضحية، ووضوح الرؤيا بالحب.. التضحية هي الحب… الحب للآخر… والآخر يشمل الأسرة والجار والناس، سواء الذين يماثلونا أو يخالفونا، في المعتقدات، ووجهات النظر. الحب الذي يشمل كل الناس وكل البشر
سر هذا الحب العظيم الذي تصل حدوده إلى أن يبذل الشخص نفسه وحياته من أجل الآخرين… إلى أن يقبل الموت في سبيل الآخرين؟ أنه سر قدسي، يعلو على الزمان، ويسمو عن الكلمات.وهو ضياء إلهي ينير الإنسان كله.. فنشع خيرًا، وجمالًا ودفئًا.إنه نور يشمل الكون كله.
هذا الحب هو مزيج من الانفعالات الإنسانية الإيجابية.. انفعالات تخلق المحب خلقًا جديدًا… من خلالها يدرك ما لا يدركه أحد.. ويرى ما لا يراه أحد.. فيكون ثمة ميلاد جديد.. ميلاد بطل.. ميلاد عبقري.. انفعالات تشبه انفعالات المبدعين في لحظات الإبداع.. فتخرج خيرًا للناس.
ومن أبرز سمات الذي يحب… حتى الموت أو التفاني من أجل الآخرين: التواضع وإنكار الذات: فهو مرادف للتضحية بالنفس، لأنه تقبلّ، ومواجهة، واحتمال للصعوبات.
فالحب يحقق للإنسان إنسانيته الحقة، الحب يسمو به ليصبح أقرب إلى السماء منه إلى الأرض، وإلى النور منه إلى التراب. ولذلك نستطيع أن نقول: أن رحمة الله التي ينشرها على خلقه، ومن خلال خلقه، تكون عن طريق المحب الذي تهيأ قلبه للحب، وللتضحية.
لقد وضع الله في الإنسان شوقًا روحيًا للاتصال به، وهو سبحانه يؤيد هذا الشوق حين يتحدث إلى الضمائر ويدعو القلوب للالتجاء إليه.
لكن بعض الناس تسيطر عليهم الأطماع والشهوات، فيغرقون في مظاهر الحياة المادية، غير عابئين بأشواق الروح وتطلعاتها للحياة الأبدية وللخلود. فينفتحون على مغريات الحياة الجسدية، ويشربون من مائها المالح الذي لا يروي ولا يشبع، ويبيعون أنفسهم مقابل شهوات ورغبات ومكاسب لا تدوم، وتجرفهم الحياة في بحرها الغريق، الذي يبدو في أعينهم وكأنه خلاصة الربح وغاية الفوز. وماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟
وهناك من يحسبون أن بإمكانهم الجمع بين مطالب النفس البشرية التي تغذيها الأطماع والشهوات، وبين أشواق الروح الإنسانية للتطهر والتواصل مع الله. وفي محاولتهم إمساك العصا من المنتصف، فإنهم يلجأون إلى ممارسة العبادات الشكلية أو تقديم الصدقات أو التمسح بمظاهر الدين، وهم يفعلون ذلك جنبًا إلى جنب مع ممارساتهم اليومية المغرقة في المادية والأطماع.
إن الذين يفعلون ذلك يخدعون أنفسهم، ويجنون ثمار هذا الخداع في واقع حياتهم الجافة التي ينقصها السلام الداخلي والراحة القلبية.