تعنى “التفاهة” فى اللغة انعدام القيمة والأهمية، وغياب الإبداع والبلادة والغباء، كما تعنى الحقارة والدناءة. وللأسف فإن الكثير من الأحداث والمآسى الكبرى فى حياتنا تحدث إما من أشخاص تافهين أو لأسباب تافهة. والأمثلة على ذلك عديدة ومتعددة، فحوادث الطرق التى يذهب ضحيتها الآلاف من البشر كل عام، غالبا ما يكون سببها تصرفات خرقاء من أشخاص تافهين. وقد نبحثلوقائع التحرش الجنسى عن أسباب ثقافية واجتماعية عميقة،
فى حين أن الأمر ليس إلا انعكاسا لحالة من الإنحطاط الثقافى وتعبيرا عن تفاهة تفرض نفسها وكأنها من طبائع الأمور. أما الحدث الجلل الذى شهدته مدينة أسوان وراح ضحيته 26 قتيلا فى واقعة هى الأولى من نوعها فى هذه المحافظة، فهو تعبير آخر عن التفاهة من حيث الأسباب وردود الأفعال. وفى المحصلة الأخيرة، فقد تكون التفاهة بلا قيمة من حيث أسبابها ومن يتمثلها ويمثلها، ولكنها من ناحية أخرى عظيمة الأثر، فبسببها يفقد الرجال والنساء والأطفال حياتهم، وبسببها تفقد النساء والفتيات حرياتهن وأمانهنالشخصى، وبسببها يسيطر أحط الناس وتصبح السلطة أشد غباء وبلادة، سواء كانت سلطة سياسية أو دينية، لأن السلطة فى نظام التفاهة تصدر توافه الأمور وتستتفه العقول.
والأخطر من تفاهة من لم يحالفهم الحظ من الفقراء والمهمشين،تفاهة المتعلمين وأصحاب الرأى أو السلطة أوالمال. لأن من يملك سلطة الكلام لا يمارس تفاهة مجردة، ولكن يتعمد التتفيه، أى اسقاط القيمة عن أشياء ذات قيمة، مثل اسقاط القيمة عن العلم والعقلانية والحقوق. فمن يتابع العديد من الفتاوى الدينية لمن يسمون أنفسهم دعاة وأئمة، يكتشف مدى الانحطاط والتفاهةوالتتفيه والاستخفاف بالعقول، ولا نقول جديدا عندما نصف أحاديث نجوم الإعلام الجدد بالتفاهة وانعدام القيمة والبلادة. فكما أن هناك سائق متهور تافه يتسبب فى مقتل أبرياء، فثمة رجل دين تافه يحض على الكراهية وقد يتسبب فى قتل أبرياء، وإعلامى تافه لا يقدم لنا سوى بضاعة رخيصة وبلا قيمة. ولكن المشكلة أن هذه البضاعة الرخيصة، وتوافه الأمور باتت ذات أهمية وأثر طالما أن هناك من يقبل عليها ويستهلكها. تماما مثل الإعلانات المنتشرة عن أجهزة إنقاص الوزن والمقويات الجنسية، فهى بلاقيمة ولكنها تحقق أرباحا. وهنا تكمن المشكلة، فللتفاهة سطوة لأنها موجودة ضمن نظام يسمح لها بالوجود ويعطيها وظيفة، فعندما تصبح البلطجة جزء من النظام، وعندما يصبح التحرش الجنسى عقوبة للنساء على مطالبتهن بحرياتهن، وعندما يكون الحض على الكراهية إيمانا وتقربا إلى الله، فلا نندهش عندما تكون التفاهة عادية ومنتشرةوالتتفيه سلوكا ينعم بالرواج.
وإذا كانت التفاهة تعنى أفعالا بلا قيمة أو أهمية، فإن مجابهتها لن تكون إلا من خلال نظام نقيض يعطى حيزا لأفعال ذات قيمة وأهمية، وهذا لن يكون إلا من خلال نظام للمعنى ضد التفاهة والتتفيه: أى كيف نرى ونصنع قيمة وأهمية لما يستحق ومن يستحق. وعندما نتحدث عن نظام فهذا يعنى ما هو أكبر من الأشخاص والأشياء، وأقصد بذلك نظاما للعدالة يتسم بالعقلانية والإنصاف، ونظام مؤسساتى فعال وايجابى بالمعنى الإدارى والسياسى، نظاما يفسح المجال للعلم والعقلانية والإبداع.بإختصار إن القضاء على سلطة التفاهة لن يتأتى إلا بسلطة جديدة للمعنى تحترم كرامة الإنسان وحياته وحريته وتحفز القدرة على الإنتاج والابداع.