المرأة المنزوفة مرقس ( 5/ 24 – 34 )
يقسم نص المرأة المنزوفة إلى زمنين واضحين. فبعد تقديم الجماهير الكثيرة التي كانت تحيط بيسوع (وهو ما يلزم للمحافظة على عدم كشف هوية المريضة)، يقدّم مرقس المرأة ومرضها وزمن مرضها ومحاولة علاجها والنتيجة السلبية التي وصل اليها العلاج. الكلمة المفتاح في الزمنين هي فعل ” لمس”.
– الزمن الاول: ما حدث في السر. (27 – 29). بطلة المشهد هي المرأة المنزوفة. يسوع في موقف صامت. وما خرج منه لم يكن عن وعي. فالمرأة لم تطلب منه الشفاء، بل ان قوة خرجت منه وشفت امرأة لم يكن يعلم أنها تطلب منه الشفاء. كما أن الجمع لم ينتبه الى ما حدث. يصل هذا الزمن الى ذروته عندما تلاحظ المريضة ما حدث لها ، لذا تتقدم المرأة أمام المسيح لتقرّ بما حدث لها.
– الزمن الثاني: الكشف عن الحدث وعن معناه (30 -34). يسوع هو بطل هذا المشهد. يسوع أيضا اكنتشف ما حدث، واكتشفه من الداخل (شعر في نفسه). ونفس الخط اتبعه مرقس معكوسا في سرد المعجزة. فانه اظهر اولا الاعمال الخارجية التي قام بها الاشخاص المعنيون ثم وصل الى تحليلها وتفسير معناها الداخلي.
“وكان يتبعه ويزحمه جمع كبير”. يبدأ النص بذكر الجموع التي تتبع يسوع وتزاحمه. وتشكل هذه الجموع الجدار الذي تختبئ المرأة خلفه لتقترب من يسوع دون أن يراها أحد، وفي نفس الوقت الوسيلة التي من خلالها يستطيع يسوع ان يعطي معنى ما حدث.
” وكانت هناك أمرأة منزوفة…” تخرج من هذه الجمع امرأة منزوفة. لاحظ أن الإنجيلي لا يذكر اسمها، إنه يعرّفها من خلال مرضها. تقديم معاناة وألم. والمرض المذكور له علاقة بالدين لان الدين اليهودي كان يعتبر مرضها نجساً وكان يحرمها بالتالي من الصلاة ومن العلاقات الاجتماعية. زد على ذلك إنها كانت محرومة أيضاً من الزواج ومن فرح الأمومة. يسترسل مرقص في وصف محاولات المرأة الخروج من حالتها المؤلمة وفي وصف فشل الاطباء. الهدف من وراء ذلك التركيز على قدرة يسوع الشفائية. ذلك إنه كلما ازدادت علاقتها ” المهنية” مع الاطباء البشريين كلما أزدادت حالتها المادية والصحية سوءاً. كل ذلك بهدف التركيز على نوعية (لا كمية) وفاعلية اللقاء مع يسوع “فلما سمعت بأخبار يسوع”. سمعت هذه المرأة بيسوع. لا بد انها سمعت عن شخص صانع معجزات. وكونها محرومة من اللقاءات العامة يفسر السرية التي بها أتت الى يسوع.
“لمست رداءه”. كان الاعتقاد شائعاً في القديم أن قوة غريبة تخرج من صانع المعجزات. قد تكون حركة المرأة لأول وهلة تنم عن اعتقادات ” سحرية” عن يسوع. بيد أن مرقص يفسّر نيّتها في ذلك قائلاً إنها قالت في نفسها ” إني ولو لمست طرف ردائه برئت”. والرداء هو امتداد للشخص الذي يلبسه. وبالفعل سأل يسوع ” من لمسني؟ ” ولم يسأل: ” من لمس ردائي؟” الأمل المختبئ وراء لمس طرف الثوب هو الشفاء من المرض لا شك لكنه يتعداه إلى الخلاص الشامل. وهذه فكرة من افكار مرقص. الشفاء نعمة ومن خلال الشفاء الجسدي يعيد العلاقة مع الله ومع الآخرين، تلك العلاقة التي حرمها المرض منها طويلاً. وفي ذلك بعدٌ ايماني واضح.
” وفي الحال جف النزيف”. حدوث المعجزة السريع شهادة على قوة إيمان المرأة المريضة. ومع أن يسوع لم يزل غائباً (ظاهرياً) عن الساحة، يجب الا نظن أن ما حدث ضرب من ضروب السحر. فالقوة التي خرجت من يسوع هي قوة الله أصل ومنبع جميع النعم. فحيث الإيمان هناك قوة تحرّر. والسبب ليس الاعتقاد السحري بل جواب الله وهبته لمن يؤمن.وإيمان المرأة هو الذي سمح بتدفّق نعمة الله في حياتها. ” وشعرت في نفسها انها برئت”. شفاؤها الجسدي فتح لها الباب للإلتقاء بيسوع. وبهذا الالتقاء يتم الخلاص وهو هدف المعجزة الاخير ومعناها العميق.
هنا ينتهي البعد الخفيّ للحادثة ويبدأ البعد العلني.
“وشعر يسوع”. شعور يسوع بما حدث امر داخلي يختلف عن شعور المرأة الخارجي. فما خرج منه لا يقع تحت الحواس. فنفهم من هنا ان التواجد بقرب يسوع والالتفاف حوله ومزاحمته لا يعني بالضرورة الالتقاء به. فهذا الاخير ثمرة نيّة وتطلعات وامل ورغبة عميقة. لا شك ان ايمان المرأة المنزوفة ورجاءها هما الذي فتحا الباب لاقترابها من يسوع ” المخلص”. في النهاية ما جمع بين يسوع والمرأة المنزوفة هو عمل الله الخفي والذي يعمل في نفس من يؤمن دون ضجة خارجية.
” من لمس ردائي”؟ إن كانت المعجزة حدثت دون صعوبة، فإن الحديث بعد المعجزة لا يجري بنفس السهولة. هذا يعني أن الخلاص ليس ثمرة معجزة – ولو كانت خارقة -بقدر ما هو ثمرة لقاء شخصي بالمخلص. لذا ليس سؤال المسيح فقط ليعرف من الذي لمس ثوبه، بل هو دعوة إلى من لمس ثوبه للاقتراب منه لنيل الخلاص الأكبر والأهم.
“فقالوا له”. أجاب التلاميذ يسوع بينما السؤال لم يكن موجها إليهم. لذلك لم يعرهم المسيح انتباهاً، ونظرة يسوع ليرى من الذي لمسه تؤكد أن جواب الرسل في غير مكانه أو على الأقل على إنهم لم يفهموا السؤال. الكلمة (مَن؟) والنظرة (نظر) دعوة الى المرأة لتخرج من الجمع وتكشف عن هويتها. لكنها مجرد دعوة ولا تصبح واقعاً إن لم تتخذ المرأة نفسها القرار بقبول الدعوة. الله يدعو لكنه لا يكسر الباب ابداً.
” فخافت المرأة وارتعبت”. قد يكون سبب ارتعابها الخوف والاضطراب النفسي لكنه قد يكون أيضاً بسبب إنها وجدت نفسها أمام عمل رباني يفوق ادراكها البشري.
” جاءت وسجدت له”. وعي المرأة لما حدث لها يحملها على الإقتراب من يسوع والارتماء على قدميه. ولهذه الحركة معنيان. الاعتراف بصغر المرأة أمام عظم ومجانية هبة الله لها، والاعتراف بهوية المخلص الذي يحمل قوة الله ويوزعها. كشفُ المرأة عن الحقيقة هو كشف عن ذاتها وقبولها بالدخول مع المسيح في علاقة إيمان صادقة تغير حياتها.