نكذب إذا قلنا ان المجتمع المصرى يتطلع للديمقراطية، ولاشك أن هناك من يتطلع بل ويناضل من أجل الديمقراطية، ولكننى أتحدث عن الحالة السياسية والمزاج العام. فخلال ما يقرب من الثلاث سنوات بات واضحا أن شعارات الثورة المصرية لم تكن تحمل ذات المعنى لدى الجميع،
فلا الحرية متفق عليها ولا العدالة محل اجماع.وإذا نظرنا إلى إلى كل الأطراف فلن نجد إلا مطالب أو توجهات لا تؤدى إلى ديمقراطية: فالسلطة تزعم أنها تحارب الإرهاب (وغالبا مهما كان الثمن)، والإخوان لا يريدون إلا استعادة السلطة (وغالبا مهما كان الثمن)، والمواطن يتطلع إلى الاستقرار (وغالبا مهما كان الثمن). وهكذا، فإننا مضطرون إلى أن ندفع ثمن الحرب على الإرهاب، وثمن التطلع المحموم للسلطة، وثمن الرغبة فى استقرار بلا مقومات. هذا هو المناخ الذى نعيشه، والذى كان نتاجا للثورة ذاتها، صحيح أن جذوره راسخة فى مجتمع غابت عنه قيم الديمقراطية لعقود من الزمان، ولكن أغلب تفاعلات الحالة التى نعيشها هى نتاج ثورة قيل أنها لم تحقق أهدافها. وهذه مسألة مهمة، أى الاعتراف بأن الثورة خلقت أزماتها، وحلها لن يكون بالمزيد من الفعل “الثورى” ذاته، ولكن بإصلاح مالم يتم إصلاحه أو ما تم إفساده.
وبما أن الحديث عن ديمقراطية سريعة بات أمرا صعبا، فهل معنى ذلك أن البديل هو الديكتاتورية؟ قد يبدو، ظاهريا، أننا فى سبيل ترسيخ ديكتاتورية دينية أو عسكرية. لكن علينا أن نتذكر أن هذا الأمر لم يتحقق لا فى ظل سلطة المجلس العسكرى، ولا فى ظل حكم الإسلام السياسى، وبمعنى آخر فالديكتاتورية لم تتحقق لا باسم الوطنية ولا باسم الدين. وبالتالى، أتصور أنه من الصعب فى ظل التوازنات القائمة أن يكون فى مقدور أى طرف أن يؤسس لحكم ديكتاتورى بالمعنى التقليدى للكلمة. والسبب بسيط لأن الديكتاتورية ليس مجرد حالة قمعية أو بوليسية، فهى نظام له شروطه والتى لا تتوافر فى الظروف القائمة، فأجهزة الدولة تتسم بالهشاشة، والاستقطاب المجتمعى والسياسى على أشده، والضغوط الإقليمية والدولية غير مسبوقة، والشارع منفلت ويصعب وضعه تحت سيطرة طويلة المدى. وهذا الشعب ذاته أراد اسقاط النظام، وقد تم تقويض النظام ولم ننجح فى تأسيس نظام أيا كان شكله. ونتيجة لهذا الوضع أصبحنا نعيش حالة “لا نظام”، فلاهى ديمقراطية ولا هى ديكتاتورية، وإنما حالة من الإضطراب والتوتر والاهتراء والتشوش على كل المستويات. فيها من الهشاشة ما يسمح بحريات فوضوية، وفيها من القمع ما يجعل من العنف سيد الموقف. وسياسيا ثمة تياران هما الأعلى صوتا، أحدهما يتوق إلى استضعاف الدولة والانتقام منها وآخر يتطلع إلى استقواء الدولةوالانتقام من أولئك الذين ينظر إليهم على أنهم معاول هدم للدولة والتاريخ المصرى. ولكن لا الإستضعاف والاستقواء فى مقدورهما بناء نظام أى كان شكله.
وخارج دائرة السياسية المستوحشة والموحشة، تغيب أية مبادرات فعلية للإصلاح السياسى أو الاجتماعى أو الاقتصادى. هذا على الرغم من أن مثل هذه المبادرات قد تكون هى المخرج الوحيد من المأزق الذى تعيشه البلد. فإذا كان لنا أن نأمل فى حلول ما، فإنها لن تأتى إلا إذا توافرت قوى تلتقى مصالحها مع الصالح العام. إنها القوى والحركات والأصوات التى تدعم وتعزز التنمية وحقوق الإنسان والتطور التقنى والإبداع الفكرى. وربما يكون السؤال الأهم الآن: كيف يمكن لهذه القوى والحركات أن تبزغ وتنمو ويكون لها تأثير؟ وأعتقد أن الاجابة على هذا السؤال الأهم لن تأتى منالمجال السياسى الذى بات أكثر ضحالة وأشد عنفا. فما نحتاج إليه الآن هو قليل من السياسية والكثير من الفعل الاجتماعى والمؤسسى.