دعا أحدُ الفريسيين يسوع إلى الطعام عنده ، فجاء يسوع وجلس إلى المائدة ، وإذا امرأة خاطئة جاءَت ومعها قارورة طيب ووقفت خلف يسوع عند رجليه ، وجعلت تبلُّ قدميه بالدموع وتَمسَحُهما بشعر رأسِها وتدهنهما بالطيب .
عند تأملنا في هذا النَّص ، كما ورد عند القديس لوقا ، نلاحظ أنَّ الفريسيين كانوا أصدقاء ليسوع ، يدعونه للطعام ، كما نرى في ( لوقا 11/37-53 وفي 14/1)، وأنَّ دعوتَهم ليسوع ، هي كي يسير حسب آرائِهم، ويقف في صفوفِهم ، أو لاكتساب ما يرونه موافقًا لَهُم . وما أكثر الْمُتَمَلِّقين المداهنين ، ليحصلوا على مطلبهم ، وإنْ لم يَحصلوا فالنميمة والاغتياب والاتِّهام وإلقاء الفتن .
جاءَت هذه المرأة الخاطئة وَوَقَفَت وراءَ يسوع حياءً وخجلاً ، إذ رأت نفسَها غير أهلٍ لمشاهدته والوقوف أمامَه ، وقد بَدَت لَها خطاياها الكثيرةومخالفاتها ظاهرة أمام قداسة الشخص الذي هو أمامها ، فراحت تبكي بِحرقةٍ وتوبة حقيقية خطاياها الماضية . وكانت تغسل قدَمَي يسوع بالطيب وتنشفهما بشعر رأسِها دليل عُمق توبتها واحترامِها ليسوع ، وتُقَبِّلهما ، وهذا العمل إنَّما يدل على حقيقة التوبة وطلب المغفرة .
غير أنَّ سمعان الفريسي تَوَهَّمَ كغيره مِن اليهود في ظنه بيسوع ، إذ كانوا جميعهم يظنون أنَّ يسوع هو المعمدان ، أو أرميا أو أحد الأنبياء ، وقد ضلَّ في حُكمه وشكَّ في قدرة المسيح وحقيقته . لأنَّهم كانوا يبعدون مثل هذه المرأة عن مُجتمعهم ، ولم يعرف أنَّ المسيح إنَّما جاء لمِثل هذه الخاطئة وغيرها ، لكي يَطهُر النجس بلَمس الطاهر؛ فبتقَرُّب هذه المرأة مِن المسيح تبرَّرَت . لم يعلَم ذلك الفريسي « ذو اليد الخفية » أنَّ الرب يسوع أتى ليدعو الخطأة إلى التوبة ، ( لو 5/32 ؛ مت 9/12-13 ) . فالمرأة لم تعد خاطئة بل تبرَّرَتْ بتوبتها ودموعِها باقترابِها مِن يسوع بالدموع والندامة .
لقد أخطأَ هذا الفريسي في حُكمه :
أولاً : لِجهله حال السيد المسيح بأنه المخلِّص ، وأنَّ كل شيء مكشوف لديهوكل ما هو غير مستطاع عند الناس مستطاع لديه .
ثانيًا : قوله : لو كان نبيًا لعرفَ … مع العِلم أنَّ النبي لا يعرف شيئًا ما لم يلهمه الروح القدس .
ثالثًا : حَكمَ على السيد المسيح حسب الظاهر. وهذا ما يحدث مع الكثيرين مِنَّا ، نَحكم على الإنسان حسب منظره …
علمَ يسوع بطبيعته الإلَهية أفكار الفريسي ، وما أضمرَه في قلبه ، فسردَ الرب له المجد على مسامعه عملاً مِن واقع حياتنا اليومية المعاشة ، إذ ذكر له الغريِمَيْن ، والدائن والدَّيْن ، فالمرأة هي التي عليها خمسمائة دينار، وهو الذي عليه الْخَمسين ، والدَّين هو الخطايا والتَّعَدِّي على حقوق الله ، وليس للإنسان ما يفي به عن الخطايا : « ماذا يعطي الإنسان فداءَ عن نفسه ؟ ». وهكذا جعل الربُ سِمْعانَ يُجيب : « مَن ترك له الأكثر يُحب أكثَر » ( لو 7/43 ) . فالمرأة أَحَبَّت بالدموع والتوبة . إنَّ المحبة الحقيقية تليِّن القلوب الأشد قساوة وصلابة ، فكم بالحري قلب يسوع المُحب للجميع وبلا إستثناء!
ولكننا نرى في جواب الرب يسوع على الفريسي وكأنه قد شعرَ بالإهانة التي أظهرها لهُ سمعان حين دخولهِ إلى بيتهِ غير إنهُ لم يذكرها في بادئ الأمر . تنازل ابن الله وظهرَ كإنسان بين شعبهِ وكان لهُ حق بالأقل أنْ ينال علامات المحبة والكرامة التي أُعطيت لغيرهِ . فالضيوف الآخرون فازوابالتقدير المعتاد مِن حسن الضيافة وكرم الاستقبال ، وأما يسوع فلم يكن عند صاحب البيت سوى رجل فقير لا يليق بهِ شيء مِن الكرامة . وبالحقيقة لم يكن لهُ موضع في منزل هذا العالم المشغول بما لذاتهِ . فبقى محسوبًا كأجنبي مِن ولادتهِ إلى موتهِ . غير إنهُ حصلَ على الكرامة مِن قلوب الذين ميزوا مجد شخصهِ بالإيمان وذاقوا محبته الخاصة لهم . فما أعظم الفرق بين معاملة سمعان لهُ وبين ما عملت تلك المرأة التي قامت مِن بيتها مُجتذبة مِن المحبة الإلهية ودخلت ذلك البيت المُمتلئ مِن الكبرياء العالمية ولم تبالِ بأحد إلا بيسوع وحدهُ فكانت دموعها بدل الماء وشعرها بدل المنشفة . كان يجب على سمعان أنْ يُقبل يسوع كأخ يهودي ويدهن رأسه بزيت ولكنهُ لم يتنازل أنْ يفعل ذلك ، وأما المرأة فأكرمتهُ كربها ومخلصها ودهنت بالطيب رجليهِ ولم تكف عن تقبيلهما . فإهانة سمعان لم تكن قليلة في حق ضيفه يسوع فإنهُ قصَّرَ حتى عن الواجبات الاعتيادية وعماهُ منعهُ عن أنْ يُميِّز في يسوع الوديع أكرم ضيف في بيتهِ وفي العالم أيضًا . مِن أجل ذلك أقول لك ” قد غُفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيرًا ” . سبق قولهُ ” إنْالمسامحة تُولد المحبة ” .
لنُلاحظ أنَّ الخاطئ التائب المُجتذب بالآب إلى المسيح يشعر في قلبهِ أنهُ مقبول قبل ما يفهم صريحًا مِن كلمة الرب أنَّ ذلك قد جرى وتمَّ لأنَّ الشعور القلبي الناتج مِن عمل الروح القدس غالبًا يسبق المعرفة الصريحة . فإنَّالآب يأتي بنا إلى المسيح بقلوب مُنسحقة بسبب خطايانا فتلين عند ركوعنا أمام قدميهِ لأننا نرى أنهُ لا يرفضنا ولكن لسوء التعليم وقِلَّة المعرفة نبقى بعض الأوقات في حالة الشك فما أحوجنا إلي الإيمان الكامل به .