منذ بداية التسعينيات وفى أعقاب الحرب الباردة أُدخل العالم فيما بات يعرف بعصر “صراع الحضارات”، والذى كان الإسلام محوره لأسباب سياسية وبمبررات ثقافية. وكما هو معروف فإن الحرب على “الإرهاب” باتت السمة الرئيسية لهذه المرحلة، وهى حربقادتها الولايات المتحدة لتكون حربا كونية بامتياز تشمل عمليات عسكرية، وتدابير أمنية، وعقوبات اقتصادية، وتعزيز لتكنولوجيا المراقبة والتعقب والملاحقة. وبما أن الحرب ضد الإرهاب باتت مسألة كونية، فإن كل الأنظمة القمعية وغير القمعية وجد فيها ملجأ وسبيلا لتعزيز أجهزتها الأمنية، وشن حروب داخلية لتثبيت مواقعها داخل السلطة. وهكذا فقد أصبحت الحرب منتشرة فى الزمان والمكان، إلى الدرجة التى يمكن معها القول بأن الحرب باتت مسألة يومية وحياتية. أما السمة الأخرى لمرحلة صراع الحضارات، فهى التسييس كل المسبوق للثقافات، وإضفاء الطابع الثقافى على الحرب الكونية الجديدة والتى تم صياغتها لتكون بين محور الخير من ناحية ومحور الشر من ناحية أخرى. ونعلم جميعا أن “الإسلام” على وجه الخصوص قد برز كمكون رئيسى فى معادلة الحرب الكونية المصنوعة والمصطنعة. وقد تم انتاج صورة عن محور الشربصناعة واستخدام رموز إسلامية ردايكالية مثل أسامة بن لادن وأيمن الظواهرى والشيخ عمر عبد الرحمن وأبوحمزة المصرى وغيرهم، وهكذا تم إضفاء مشروعية على الحرب الكونية الجديدة.
وإلى جانب مسار الحرب الكونية، تم صناعة مسار آخر مرتبط به وهو مسار صناعة السلم الكونى وهو أيضا مسار ثقافى أطلق عليه حوار الحضارات. وكان الهدف من هذا المسار هو التواصل مع الجانب الخير فى الثقافة الإسلامية، لكسر سم جانب الشر فيه. وهكذا تم انفاق الأموال فى بحوث ودراسات ومؤتمرات كل لاتهدف إلى شئ إلا إلى إثبات طيبة وحسن نوايا الجانب الإسلامى. ولكن المشكلة الفعلية أن كل من مسار الحرب ومسار السلم قد تم من خلالها خلق وتعزيز صورة نمطية عن المجتمعات التى يدين غالبية سكانها بالإسلام، على أنها كيانات دينية أكثر من كونها مجتمعات تتسم بالتعدد والاختلاف الاجتماعى والدينى والثقافى والعرقى.
ومع التطورات التى حدثت مؤخرا فى البلدان العربية تبين أن هذه المجتمعات ليست كيانات دينية، وأن الصورة النمطية التى صنعها الغرب على مدار عقود من الزمان ليست صحيحة. فهذه المجتمعات لا تتسم فقط بالتنوع والاختلاف، ولكن ثمة مؤشرات على أن غالبية سكانها يرفضون الحكم الدينى بالصورة النمطية التى تصورها الغرب. إن فشل حكم الإخوان، سواء كان بسبب الرفض الشعبى أو بسبب صراعات المصالح، بدا وكأنه صدمة غير متوقعة لأطراف غربية وضعت استراتيجيتها وصممت علاقاتها الدولية على أساس التعامل مع كيانات دينية وليس مجتمعات. ولذا فربما يكون من غير المستغرب أن يكون رد الفعل الغربى على ما يحدث فى مصر على وجه التحديد هو نوع من الإرتباك والإرباك. فنجد شخصا مثل السيناتور الأمريكى، جون ماكين، أحد أبرز أنصار الحرب على الإرهاب، يبادر بالدفاع عن وجود سلطة إسلامية فى مصر باستخدام حجج واهية تتعلق بالدفاع عن الشرعية والديمقراطية، وكلنا يعلم أن المصالح وليس عشق الديمقراطية هو ما يحرك السياسة الخارجية لأمريكا على وجه الخصوص.
ومع ذلك نقول، أن ما يحدث فى مصر والمنطقة العربية وردود الفعل الأمريكية والأوروبية عليه، يتطلب المزيد من البحث والدراسة لفهمجوانبها المختلفة السياسية أو الأمنية او الثقافية. لكن الأكيد أن الإطار العام السابق المتمثل فى لعبة صراع أو حوار الحضارات لم يعد صالحا لفهم هذه الجوانب. وأزعم أنه بفعل التطورات التى تشهدها المنطقة، فقد أصبحنا فى مرحلة ما بعد صراع الحضارات. ولعل الميزة الأساسية لهذا الوضع هو أننا سوف نتخلص من الأوهام الثقافية المتمثلة فى الصراع الحضارى بين الإسلام والغرب، وربما يساعدنا هذا على رؤية العلاقات الدولية من منظور أكثر واقعية، وأعنى بذلك منظور المصالح السياسية والمادية.