سألت نفسي ماذا لو كنت هناك يوم الصليب ؟ فطارت بي أجنحة التأمل إلى هضبة الجلجثة …وهناك رأيت الرب يسوع على الصليب ، ورأيت الدموع في عينيه وعلى خديه.
وهناك رأيت الرب يسوع على الصليب ، ورأيت الدموع في عينيه وعلى خديه.
ولست أدري ما سر هذه الدموع ؟… فلم يقل الكتاب إن يسوع قد بكى على الصليب.
فهل ما زالت الدموع على أورشليم الغالية في عينيه ؟؟ … أم جاء من بستان جثسيماني باكياً ؟؟؟.
أنا أعلم أن دموع يسوع أرق تعبير… وأعمق برهان على حبه للإنسان … وحبه للخطاة بصفة خاصة.
اقتربت من يسوعي وقلت له :-
يا يسوعي أنا أعلم أن آلام الصليب أقسى آلام عرفتها الأجيال البشرية على مر الدهور ،
وأنا أعلم أنها كانت مريرة لنفسك الحلوة الرقيقة المرهفة … لكن لماذا تبكي يايسوع ؟؟
هل تبكي يا يسوع من يهوذا الأسخريوطي الخائن ؟
الذي أكل معك ، واستمع إلى تعاليمك ، ورأى معجزاتك وآياتك … وبالرغم من هذا… باعك بأبخث الأثمان .
وجاء يقبلك بقبلة غاشة ماكرة ويسلمك للأعداء ؟؟
فأجابني : لا .. لا.. لم يكن غريبا أن يخونني يهوذا، فما أكثر الأفراد الخائنين.
وما أكثر الذين يبيعونني في هذه الأيام ، وأقل بكثير من هذا الثمن.
هل تبكي يايسوع من الفريسيين ؟
أولئك الذين عزلوا أنفسهم عن المجتمع، وظنوا أنهم أفضل من غيرهم … أولئك الذين يهتمون بالمظهر دون الجوهر.
لست أدري لماذا أعلنوا العداء السافر ضدك ؟ ! … هل لأنك صادقت العشارين ، وأحببت الخطاة ؟!
أم لأنك كسرت السبت الحرفي بحسب مفهومهم الحرفي الجامد وتزمتهم الديني؟!
فظنوا وهم يقودونك إلى الصليب أنهم يقدمون أعظم خدمة لله.
هل تبكي يايسوع من قيافا رجل الدين؟
الذي باسم الدين صلب رب الدين… وجعل كل أجيال التاريخ تصيح: –
آه أيها الدين ! كم من الآثام ترتكب باسمك الحلو الجميل. !!
فقال …لا…لا… فكم من أناس تتخذ عباءة الدين ستاراً لشرورهم .
لهم صورة التقوى… أما الجوهر فراغ وضياع .. شرور وآثام
عبادتهم للعرض فقط … يكرمونني بشفاههم ، أما قلوبهم فما أبعدها عني .
إيمانهم مجرد كلام بدون أعمال … في الكنيسة بصورة وفي خارجها بصورة أخرى .
هل تبكي يا يسوع من رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب ؟!… الذين أسلموك حسداً..
الذين رأوا فيك – بحماقتهم – منافساً خطيراً لهم ..
في الوقت الذي أرادوا فيه السيطرة على الشعب بسلطان الدين الطقسي ؟!
هل تبكي يا يسوع من بيلاطس؟!
رجل العدالة الذي داس على العدالة بقدميه حين حكم عليك وأسلمك ليد صالبيك…
بالرغم أنه كان متيقناً من أنك بريء كل البراءة من كل التهم الموجهة إليك من اليهود ..
وكان يعلم في الوقت نفسه مقدار رياء رؤساء الكهنة ونفاقهم وكذبهم … عندما قالوا : ” ليس لنا ملك إلا قيصر ” .
وغسل يديه لكن.. وآسفاه ستظل يديه بل حياته كلها ملوثة … بأبشع وأنشنع جريمة على سطح الأرض.
فيكفي أن التاريخ قد سطر في قصة صليب المسيح … {أنه صلب في عهد بيلاطس البنطي} .
هل تبكي يا يسوع من الجموع ؟!.
التي تهتف بدون وعي أو إدراك، بل في غباء وجهل ” أصلبه.. أصلبه “
ولعلهم هم أنفسهم الذين هتفوا قبل ذلك بأيام قائلين:- ” أوصنا.. أوصنا .. مبارك الآتي باسم الرب ” ؟!
آه .. من تقلب مشاعر الإنسان … آه.. من موات الضمير والجحود والنكران .
لقد أمسكت بواحد من الجموع وسألته :- أي قانون يدين يسوع ، وماذا فعل مخالفاً للناموس.
وهل حوكم محاكمة عادلة أمام مجمع السنهدريم ؟! … فقال لي : لا أعلم لكن رئيس الكهنة يقول انه فاعل شر .
ولو لم يكن قد فعل شراً لما قدمه رؤساء الكهنة للمحاكمة … إنني أسمع واتبع ما يقوله الرؤساء.
إن هذه مسئوليتهم وليست مسئوليتي… وهكذا يحاول البعض الهروب من مسئوليتهم ويضعونها على غيرهم.
رغم أنهم سيقفون أمام الله … لأن كل واحد سيعطي حساباً عن نفسه وليس من مفر أو مهرب ! .
هل تبكي يا يسوع من صفعة عبد رئيس الكهنة ساعة محاكمتك ؟!
أم تبكي من الذين بصقوا على وجهك في الوقت الذي فيه كنت تستحق كل تمجيد وتكريم ؟!
هل تبكي يا يسوع من إكليل الشوك ؟!
الذي جعل الدماء تسيل من جبينك وأنت تستحق أن تتوج بأغلى تاج في الوجود !!
لكنني أعلم أن إكليل الشوك هو النتيجة الحتمية لخطية الإنسان..
التي بسبها أنبتت له الأرض الشوك والحسك عندما كسر آدم الوصية .
هل تبكي يا يسوع من المسامير الغليظة ؟! … التي دقت في يديك وقدميك دون رحمة أو شفقة.
أم تبكي من ذلك الإنسان المتبلد الإحساس والمتجمد القلب الذي طعنك بحربة، في جنبك الكريم ؟؟.
أم تبكي يا يسوع من اللص المجدف الذي كان يسخر منك قائلاً :- ” إن كنت أنت المسيح فخلص نفسك وإيانا “.
هل تبكي يا يسوع من الجنود الأثمة ؟!
الذين نزعوا ثيابك ، واقترعوا عليها واقتسموها فيما بينهم ، فأصبحت شبه عار على الصليب .
لقد تذكرت الآن يايسوع أن آدم وحواء عندما كسرا الوصية ” فللوقت علما أنهما عريانان “
فجئت يا يسوعي تنسج بأناملك الرقيقة ثوب الخلاص ، ورداء البر … لتستر عرينا ، وتمحو عارنا..
هل تبكي يا يسوع لأنك عندما صرخت ” أنا عطشان ” ؟!
لم يكن هناك من يسرع ويقدم بيديه كأس ماء بارد..
لكن من بعيد وبأيد ملوثة بالإثم والدماء وعلى قصبة الحقد والاستهزاء قدموا لك المر ؟!
لكن يسوع يقول : لا .. أنا لم أكن في عطش إلى رشفة مياه بل كنت عطشانا إلى قلوب..
ولقد أخذت الخل لكي أؤكد للإنسان أن حبي له بلا حدود ..
فشدة العداوة لا تقطع العلاقة، وكل صنوف العذاب لا تفصلني عن الإنسان.
إذا ما الذي يجعلك تبكي يا يسوع ؟!.. فأجابني : أنا لا أبكي من يهوذا أو قيافا أو هيرودس أو بيلاطس.
أو اللص المجدف ، ولا من الجنود الذين اقترعوا على ثيابي ..
ولا من الشوك في الجبين ، ولا من الآم المسامير… ولا من طعنة الحربة القاسية ، ولا من كأس العلقم والمر.
ولا من رياء جماعة الفريسيين ، ولا من مقاومة الصدوقيين …ولكن الذي يؤلمني كل الألم ، ويجعل قلبي يدمي هو :-
أين تلاميذي ؟! كيف سجل الوحي عنهم أن ” كلهم تركوني وهربوا ” .
فها هو توما يجري بعيداً بكل ما أوتي من قوة ! … وها يعقوب وهو يهرب يلتفت وراءه لعل أحداً يتعقبه !
وها هو فيلبس يختببيء وراء جدار … وها هو بطرس تخونه شجاعته وينكرني !
يا له من منظر مفزع ! .. وواصل يسوع كلامه قائلاً:-
أين من أحسنت إليهم ومددت لهم يد المحبة والعطف والجود والإحسان ؟!
أين الآلاف الذين أشبعتهم ؟ ! … أين من شفيت مرضاهم ؟!
أين من رددت لهم نعمة السمع ؟! … أين الذي أعدت له نعمة العقل ؟!
أين مريض بركة بيت حسدا ؟! … أين المفلوج الذي أقمته ، والذين كانوا يحملونه ؟!
أين ذو اليد اليابسة ؟! … أين الذين كانوا مرضى بالبرص وطهرتهم ؟!
أين التي أوقفت نزيف دمها؟ ! … أين قائد المئه الذي شفيت غلامه ؟!
أين من أقمت موتاهم ؟! … أين لعازر حبيبي الذي أقمته من الموت بعد أن أنتن ؟!
أين ابن أرملة نايين الذي أعدته إلى الحياة ؟!
أين يايرس وأبنته التي أقمتها من الموت وسط السخرية والاستهزاء ؟!
أين … وأين … وأين كل هؤلاء ؟!
هل نسوا الحب العميق ، والجود العميم ؟!
هل نسوا أيام الجليل والناصرة وكفر ناحوم ، وبيت عنيا ، والتجلي ، وأحلى أيام الحياة ؟!
وعندئذ أدركت لماذا يبكي يسوع!
وركعت عند الصليب باكياً… وخرجت كلمات صلاتي مبللة بالدموع .
دموعك يا سيدي حطمت كبريائي ، وأذبت جمود مشاعري ..
آه … يا سيدي كل رياء وخبث ومظهرية فيّ … تذكرني بحياة الفريسين ..
فامنحني الهي حياة النقاوة ، والطهارة ، والإخلاص .
آه … كم من مرات يا سيدي أرتكب نفس جريمة بيلاطس..
عندما أعمل لمصلحتي الشخصية وأدور حول ذاتي بنرجسيه وأنانيه بغيضة …
انتشلني يا الهي من دائرة ذاتي وأحلامي وطموحاتي الخاطئة … واجعلني أعمل لمجدك أنت ولا سواك.
آه … يا سيدي كم من مرات ارتكب ما ارتكبه يهوذا الإسخريوطي…
أعطني يا الهي أن أحيا حياة الأمانة والصدق إلى الموت…
إنني أعلم يا يسوع أن كل خطية ارتكبتها أنا، هي بمثابة مسمار في يدك الرقيقة.
وكل إنكار لاسمك القدوس هو طعنة مؤلمة في جنبك .
وكل فعل اقترفته لا يمجدك، شوكة دامية في إكليل الشوك الموضوع على رأسك.
، وكل كلمة بطالة تكلمت بها كانت تمثل دوراً فعالا في آلامك المبرحة.
ها أنا آتي ياربي بكل ضعفي وإثمي … فهل تسامحني وتقبلني … ؟!.
فمد يسوع يده الحلوة .. ومسح دموعي .. وقال لي : ” أسامحك … أقبلك … أحبك… “.
وضمني في حنان عميق … إلى صدره الواقي الدفيء ..
يا لها من كلمات رائعة عذبة… ملأت أجواء قلبي الفارغ بالسلام العجيب الذي يفوق إدراك العقول.
وبالفرح الذي لا ينطق به ومجيد.
وعندئذ أردفت قائلاً :- أشكرك يا يسوع .
لأنك غمرتني بحب عميق ، وبنعمة متفاضلة ، وانتشلت حياتي من طين الحمأة ..
وكسوتني ثوب الخلاص ، وألبستني رداء البر ، وجعلت في فمي ترنيمة جديدة .
أشكرك لأنك سترت خطيتي ، وغفرت إثمي ، ومحوت ذنبي .
أشكرك يا يسوع لأجل قصة الحب العجيب التي كتبتها بدمك على الصليب
وأي حب أعظم من هذا ! فبقيودك حررتني، وبمحاكمتك بررتني ، وبموتك أعطيتني الحياة ،
افتقرت لتغنيني وتعذبت لتعزيني ..
واتضعت وتنازلت لترفعني ، وارتفعت إلى السماء لتشفع فيّ .. وتعد ليّ المكان..
وبعد إلى مجد تأخذني… هناك…هناك في السماء
أعطني يا يسوع أن أصلب الجسد مع الشهوات الأهواء … وأموت عن العالم…أموت معك … لأقوم معك .
بحياة جديدة تشبع قلبك ، وهي أفضل حياة تشبع قلبي ، وهي الحياة الأبدية بمعرفتي إياك.
أعطني يا يسوع أن أحبك… من كل القلب، والنفس، والفكر، وبكل ما أملك من قوة وقدرة.
أحبك بالعمل والحق، لا باللسان والكلام… أحبك لأنك أحببتني أولاُ .
وأعطني يا يسوع أن أنكر نفسي، وأحمل الصليب… وأتبعك كل يوم حيث الحقول التي ابيضت للحصاد.
وإلى كل من يستغيث بي قائلاً:- ” أعبر إلينا وأعنا “
وإلى كل من يتسائل … ماذا ينبغي أن فعل لكي اخلص؟!.
أو ماذا اعمل لكي أرث الحياة الأبدية ؟!.. أعطني سيدي أن أعيش حياة القيامة.
الحياة الظافرة المنتصرة… الحياة التي تسمو فوق دنايا الأرض.
الحياة التي تحمل فكر المسيح … حياة القلب العامر بالإيمان.
والآذان المدربة على سماع صوت الله … واللسان الذي يلهج في ناموس الرب نهاراً وليلاً.
والعين التي تنظر بعين المسيح… والأيدي الممتلئة بالعطاء ..
والأقدام التي تسعى صوب خدمة الآخرين… الحياة التي لا تعبأ بالمخاوف والمخاطر في طريق الخدمة.
هذه صلاتي يا سيدي في ذكرى صليبك العظيم .