كان لنيافة المطران يوحنا اغريغوريوس ابراهيم مطران السريان الارثوذكس بحلب والمخطوف من قبل جماعة مجهولة رؤية خاصة لما يحدث فى سوريا وقد قام بكتابة مقال مطول يشرح فيه موقف مـسيحيـو سـوريـة من الاحداث وهو مقال تدل على عمق الرؤية والبصيرة النافذة
كان لنيافة المطران يوحنا اغريغوريوس ابراهيم مطران السريان الارثوذكس بحلب والمخطوف من قبل جماعة مجهولة رؤية خاصة لما يحدث فى سوريا وقد قام بكتابة مقال مطول يشرح فيه موقف مـسيحيـو سـوريـة من الاحداث وهو مقال تدل على عمق الرؤية والبصيرة النافذة ومن ناحية اخرى يشير لخطورة الموقف الذى يعانى منه الان ويجعل حالة القلق المسيحى لاجله مبرره .ومن سطور هذا المقال القيم يقول نيافته ان:
المواطنون في أحداث سورية هم أمام أزمة داخلية، ومؤامرة خارجية. الأزمة الداخلية تُحركها المعارضة التي لم تُنظم نفسها بعدُ لا داخلياً ولا خارجياً، ومطالب إصلاحية جاءت بشكل عفوي، وزاد عددها في اللقاءات التي حصلت بين القيادة السياسية والوفود الشعبية، ولكن من أهم هذه المطالب، رفع حالة الطوارئ، التعددية الحزبية، الانتخابات الحرة والنزيهة، تبييض السجون من المساجين، إصدار مراسيم خاصة في الشأن الاقتصادي، ترسيخ المفهوم الديمقراطي بكل أبعاده، وسياسة الانفتاح داخلياً وخارجياً، هذا بالإضافة إلى بعض المطالب التي أتى بها رجال الدين الإسلامي منها: فضائية معبرة عن الفكر الإسلامي في سورية، ودعم شؤون المدارس الشرعية، واستقلالية الخطاب الديني، وإعادة المنقبات إلى الوظيفة في كل الوزارات، وغيرها من المطالب التي بعضها تناول المال، والإدارة، والزراعة والصناعة والسياحة والتجارة والحالة الاجتماعية. هذا وقد أشار اللقاء التشاوري للحوار الوطني الذي حصل يومي الأحد والاثنين 10-11 تموز 2011 إلى بعض ما يصبو إليه المواطنون منها: الانتقال إلى دولة تعددية ديمقراطية، وتغيير الدستور لينسجم مع الدولة الحديثة تحت شعار ضمان لمستقبل سورية. وفي الكلمات التي عرضها المشاركون ارتفع سقف المطالب منها ما له مساس بتفكيك الدولة الأمنية، وأن الشعب مصدر التفويض، وضرورة الانتقال إلى المدنية، وكل ذلك يؤدي لا محالة لإزالة الاحتقان الداخلي الناجم عن ممارسات خاطئة.
أما المؤامرة الخارجية فتحققت من خلال الهجوم الإعلامي المكثف من بعض الفضائيات، وتعتقد سورية أن هذه الفضائيات مأجورة، ولها أجندات مشبوهة، لا تفكر بمصلحة الشعب السوري بقدر ما تُعمّق الجراحات في جسم سورية وطناً وشعباً، إلى جانب ذلك جاء موضوع وقوف تركيا وقطر ضد سورية، بعد أن كان كلٌّ من البلدين قد تجاوز في علاقاته مع سورية حالة الصداقة إلى الأخوة. فتبدُّل موقف البلدين زاد من تفكير السوريين بأن اللعبة التي تجري اليوم على أرض سورية لها أبعاد مؤامرة، يُشارك فيها بعض البلدان في الشرق والغرب، وجاءت زيارة السفيرين الاميريكي والفرنسي لمدينة حماه في هذه الظروف الصعبة والمتشنجة، إشارة واضحة إلى أن دولاً مثل الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا وبريطانيا لها أصابع تلعب في تأجيج هذا الحراك الشعبي.
هذه المقدمة الوجيزة فيها كل معاني الوصف والتوضيح والفهم لما يجري على أرض سورية اليوم، وهذا بكل تأكيد لا يعني تجاهل الفساد بكل أبعاده، والذي استشرى منذ سنوات في سورية، ولم تجدِ نفعاً سياسة المحاسبة التي تبنتها بعض الحكومات في اقتلاع جذور الفساد من المجتمع، كما أن كل عاقل لا يمكن أن يُجانب الحق، ولا يُطالب بالإصلاحات بكل أشكالها في سورية الوطن والمواطنين.
المسيحيون اليوم في سورية وعددهم يتجاوز المليون، فاجأتهم كل هذه الأحداث وتطوراتِها، والكل يعلم، والتاريخ يُثبت بأن المسيحيين في سورية ليسوا حالة طارئة، ففي أنطاكية عاصمة سورية في القرن الأول للميلاد دُعي التلاميذ أولاً مسيحيين، ومن أنطاكية انتشرت الرسالة المسيحية شرقاً وغرباً، دخلت إلى آسيا الصغرى ومرت باليونان إلى أن وصلت إلى روما. وجاءت الرسالة المسيحية أيضاً إلى بلاد ما بين النهرين، فأسست أول مملكة مسيحية في مدينة الرها، ثم اتجهت إلى عمق بلاد فارس، وجبال طورا بورا، والهند، والصين. وفي سورية تاريخ الأبرشيات القديمة اللائذة بالكرسي الأنطاكي يعود إلى القرون الأول والثاني والثالث للميلاد، وما زلنا نحتفظ بسلسلة الأساقفة السوريين الذين ساهموا في بناء الحضارة، وتعدد الثقافات في سورية ماضياً وحاضراً، ويفتخر السريان بأنهم زرعوا أكثر من خمسين ديراً أصبحت بعضها بمثابة جامعات اليوم، فخرّجت دفعات من كبار العلماء، والأدباء، والشعراء، والباحثين، والفقهاء، ما زالت آثارهم حتى اليوم تدل على مكانتهم العلمية. ولا ينسى العرب المسلمون عندما جاءوا إلى هذه البلاد من شبه الجزيرة العربية، كيف أنهم دخلوا بعض البلدان سلماً، لأن سكانها المسيحيين الأصيلين ساهموا في الفتح العربي، ورحبوا بالقادمين الجدد من شبه الجزيرة العربية.
حلب المدينة التي تضم اليوم حوالي ثلاثة ملايين نسمة من مسلمين ومسيحيين تفتخر بأوابدها وكنائسها وأديرتها، خاصة الذي مازال ماثلاً للعيان فيما يسمى اليوم ب: المدن المنسيةمنها: دير مار سمعان العمودي الذي تأسس في نهاية القرن الخامس الميلادي، فرغم تحديات الزمن ما زالت آثار هذا الدير العظيم ببنيانه، والرائع بعمارته، باقية حتى اليوم، وهي تشهد ليل نهار على هذا العمق للفكر التنويري الذي عاشه المسيحيون السوريون قبل الفتح العربي، ودائماً كان المسيحيون في سورية معنيين بما يجري على أرضها، وقد وقفوا في خندق واحد مع إخوتهم المسلمين السوريين في سبيل تحرير البلاد من كل أنواع الاستعمار والاحتلال سواء كان آتياً من الخارج أو من الداخل.
وحول انحسار المسيحيين في الشرق يقول المطران يوحنا والملفت للنظر أن عدد المسيحيين السوريين انحسر كثيراً في الآونة الأخيرة في الوطن كما انحسرت المسيحية المشرقية في كل المنطقة. فإذا القينا نظرة على خريطة المنطقة اليوم لوجدنا أن آلاف الأوابد والكنائس والأديرة دمرت أو شوهت وأصبحت خراباً أو لم يبق لها أثر على الخريطة وهذا إشارة واضحة إلى أن من كان يستعملها ويصلي فيها قد انحسرت أعدادهم مما أدى إلى خسارة كبيرة للتعددية التي ننشدها، في علاقة الأديان والمذاهب مع بعضها. وسبب هذا الانحسار أولاً هو الديموغرافيا التي تشير إلى تزايد عدد المسلمين من جهة وتناقص عدد المسيحيين من جهة أخرى لسببين الأول هو النمو السكاني والثاني هو الهجرة القسرية التي جاءت بناءا على تنامي الشعور بالخوف من المستقبل خاصة بعد مذابح المسيحيين المتكررة في المنطقة بدءا من عام 1860 ومرورا بعام 1895 ونتائج الحرب العالميتين الأولى والثانية، هذه المرحلة عرفت قوافل هائلة من الشهداء المسيحيين خاصة من السريان والكلدان والآشوريين والأرمن، وبعد هذه المجازر جاءت آثار الوحدة بين مصر وسورية، وخلالها بروز لغة الطائفية والتي أدت إلى هجرة أصحاب العقول والأموال من المسيحيين خاصة إلى لبنان، تبعتها حالة سورية في الثمانينيات من القرن الماضي، عندما ظهرت حركة الإخوان المسلمين، وختمت هذه الحالة بالحرب في العراق التي خلفت وراءها أعدادًا كبيرة من المقتلعين من جذورهم. فمسيحيو سورية لم يبقوا بعيدين عن كل هذه العناصر التي دفعت أعدادًا منهم للاغتراب سواء كان إلى أميركا اللاتينية، أو الوسطى مثل فنزويلا، أو فيما بعد إلى الولايات المتحدة الأميركية وكندا، وبعد الستينيات من القرن الماضي بدت بقوة ظاهرة هجرة مئات الآلاف من السريان إلى السويد وألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية.
الموقف المسيحي الموحد
ولكن في أحداث سورية اليوم، لا يوجد موقف مسيحي واحد موحّد، بارز على الساحة، ما عدا أن القيادات الكنسية أكَّدت وقوفها إلى جانب النظام، وذلك من خلال العظات في الكنائس والبيانات التي أصدرتها بعض الكنائس، أشير هنا إلى واحدة منها وهي رسالة بعثها قداسة البطريرك زكا الأول إلى السيد الرئيس بشار الأسد بتاريخ 2 / 7 / 2011، ويعطي فحوى هذه الرسالة فكرة واضحة لموقف المسيحيين تجاه الأحداث والتطورات الخطيرة التي تقع اليوم.
يقول قداسة البطريرك زكا : إن السريان في كل مكان يناهضون كل مظاهر العنف، ويقفون إلى جانب السلم والاستقرار والأمان، ويركزون على أن يكون الحوار لغة الجميع. وفي إشارة مهمة إلى ثقافة المواطنة يقول قداسته : إن ثقافة المواطنة كلما تعمقت في فكرنا، كلما شعرنا بانتمائنا الحقيقي إلى تراب سورية، ومن موقعه كرئيس أعلى للسريان في العالم يرى قداسته : أن زيادة مساحة التعاطي مع الحريات العامة، وتجذر الوعي بين أبناء الوطن الواحد يُسهمان في إغناء تعددية ثقافاته وأطيافه،
في بداية الأحداث، تمَّ طرح أسئلة منها : هل يتأثر المسيحيون في سورية بالقياس لواقعهم مع المسيحيين في العراق ؟ هل التحرك الحالي أي الحراك الشعبي شبيه لما كان عليه الحال في العراق أم هناك اختلاف ؟ الجواب هو : أن المسيحيين في العراق أصيبوا في الصميم عندما حاول بعض المتطرفين أن يعلنوا بأن زمن الحضور المسيحي في العراق قد ولّى، فما قام به المتطرفون من اضطهاد سافر للمسيحيين، خاصة في مدينة الموصل، وقتل مطران جليل، وكهنة أفاضل، وشمامسة، ومؤمنين، كان ظاهرة سلبية في حياة وطن تأسست دعائمه على الوحدة الوطنية والعيش معاً.
في سورية هذه الحالة لم يعرفها المسيحيون في ماضيهم البعيد والقريب، ويعتقد المسيحيون السوريون وكذلك المسلمون أن الوطن سورية هي الأنموذج للعيش معاً في فضاء الوطن الواحد، وذلك من خلال هُوِّية المواطنة، مع الإيمان بأن طموحات كل السوريين، وتحقيق المطالب في الإصلاح الشامل بمعناه الواسع فكرياً واقتصادياً واجتماعياً لا يحصل إلا بمناخٍ من الحريات العامة التي تضمن وصول المواطنين إلى حقيقة خيار لمستقبل زاهر على كل الصعد. فلا لغة العنف والتحدي، ولا أعمال التخريب والهدم، ولا التناحر والعداء هي من السُبل التي تحقق الأهداف المرجوة، بل العمل معاً هو الأسلم سلوكاً، والأرفع غاية، والأمضى سلاماً، وهذا يؤدي دون شك إلى طريق إنقاذ الوطن من كل شائبة تُعرقل مسيرة الإصلاح.
فإذا اعتبر أحدهم أن البيئة الحالية لتطورات الأحداث اليوم في سورية لم تفسح المجال للمسيحيين السوريين في اتخاذ موقف ما، سوى أن أغلبيتهم يقفون مع النظام، وبعض الأفراد الذين يمثلون أحزاباً أو جماعات يشاركون بأسمائهم المسيحية في المعارضة
فصل الدين عن الدولة
ويبقى حلم المسيحيين السوريين فصل الدين عن الدولة وعن السياسة في آن، وعدم زجهم في صراعات طائفية أو مذهبية، خاصة أنهم لم يعتنقوا أصولية مسيحية أو فكراً متزمتاً كما لم ينغلقوا على ذواتهم. لهذا نراهم في كثير من الأحيان متجهين نحو الحياد ويتراكضون في سباق دائم إلى الزاوية الوطنية. ويأسف المسيحيون أنهم يُبعدون أحيانًا بشكل أو بآخر عن التمثيل الحقيقي في الحياة السياسية والوظيفية بسبب عدم فهم هذا التنوع في الدين والمذهب.