يحلو لطرة من فقهاء القانون الدستورى ان يزعموا فى الاونه الاخيرة ان الموضوعية و العلميه هى حكر عليهم ، وذلك رغم جهلهم بالتطورات الحديثه لكثير من المفاهيم الدستوريه و القانونية الحديثه التى تلوك بها السنتهم عن فرنسا و عن موقف القضاء الفرنسي من تلك المفاهيم.
فاذا ما قرر القاضى – الدستورى او الادارى – حكما على نحو مغاير لما توقعوه فهو تعبير عن قضاء مسيس. و كان القضاء لا ينبغى ان يعرف التطور شانه شان المفاهيم الدستوريه كلها. على ان الاتهام بالتسييس هو اتهام انتقائى فينجو منه قطعا حركه مثل “قضاه من اجل مصر” و ينجو منه كذلك النائب العام الحالى و قراراته العديدة ، بينما يقع تحت طائلة الاتهام بالتسييس كل قضاء يقوم بدوره الطبيعى و المعتاد منذ ما يتجاوز نصف قرن فى الرقابه على مشروعية اعمال السلطة التنفيذيه و على دستوريه قوانين المجلس التشريعى . انه من الملفت للنظر اليوم ان الاتهام يوجه بصورة غير لائقة و ظالمة و غير مسبوقة الى قاضى القانون العام بالذات اى القضاء الادارى و الدستورى.
فايا كان الحكم القضائى اداريا كان ام دستوريا و ايا كان موضوعه و ايا كان العوار الذى ابرزه الحكم باسانيده الفنية و القانونيه القوية ، فالباعث عند اصحاب الاتهام الغريض دائما واحد : ان القضاء مسيس و ان العوار ليس فى العمل المعيب الخاضع لرقابة القاضى و لا فى صنيعة اياديهم العبقرية، و انما يكمن العيب فى الحكم القضائى ذاته و فى القضاء المسيس لانه لم يسلك الدروب التى توقعوها له. و لم يتطرق الى اذهانهم الفذه لحظه واحدة انه سلط عليهم من اعمالهم : فلم يتبن القاضى اسبابهم و و لا توقعاتهم التى لا تمت بصلة للتطور الحالى لعلم القانون العام. كما لو كانت عقارب الساعة قد توقفت عند حقبة الستينات و السبعينات فى العالم كله ، و مصر تظل هكذا الدوله الوحيده فى العالم التى يكتب على ابنائها من طلاب الحقوق ان يدرسوا سنه ٢٠١٣ و على ايدى هذا الفقه المسيس ترهات اصبحت ركاما لحقبة قد مضت او تراثا لفترة قد زالت ، كنظرية اعمال السيادة التى كان اول من دفنها القاضى الادارى الفرنسى الذى خلقها.
ان الكثيرين من اصحاب هذا الفقه الغريض لا يدرون شيئا البته عن الحقائق القانونية التاليه فى القانون الدستورى و الادارى الفرنسي الذى يتمسحون و يتشدقون به:
اولا. القاضى الادارى الفرنسى يقبل طعون التعويضات عن التشريعات المسببه لاضرار مباشرة للافراد ، كما يقبل الاختصاص فى التعويض عن اعمال الحكومة التى تخرج عن دائرة اختصاصه اذا سببت ضررا خاصا للغير و يبنى قضاءه على مبدا دستورى هام و هو المساواة امام الاعباء العامة. و الاحكام القضائية الفرنسية موجوده حديثه و يمكن لكل باحث ان يقراها ليتاكد من مغالطات الفقه الذى يدعى بان اعمال السياده ليست محلا لاى طعن و باى وجه حتى فى فرنسا !
ثانيا. لقد اتسعت رقابة الالغاء على اعمال السلطه التنفيذيه اتساعا مهولا و غير مسبوق فى فرنسا و شمل ذلك اعمالا ما كانت لتدخل فى اختصاص القضاء الادارى لولا التطور الهائل الذى لحق بكل شئ بما فى ذلك مفهوم الدولة القانونية و علم القانون بطبيعة الحال. ومثال ذلك القرارات السابقة على ابرام المعاهدات و القرارات المرتبطه بالمعاهدات الدوليه و تنفيذها. و الاحكام القضائية عديده فى هذا المجال و لعل المعرفه بها تدعو هذا الفقه الى الحياء و الخجل من ترديد كلمة اعمال السياده على عوانها و بلا تمييز.
ثالثا. فى طعون الانتخابات على وجه الخصوص و كل ما يشمل دعوة الناخبين و اجراء ات الانتخاب و الاستفتاء، كل ذلك يخضع لرقابه المجلس الدستورى الفرنسى و بعض الطعون لازالت تتعلق حتى اليوم باختصاص مجلس الدولة الفرنسي. و القول بعكس ذلك هو جهل تام بالقانون العام الفرنسى و باحكام القضاء الفرنسي. اننى لا املك الا الدهشه و الحسرى عند سماع تصريحات بعض المتفيقهيين من المقربين للسلطه فى حديثهم عن الفقه و القانون الفرنسى الذى يجهلون كل تطوراته فى الثلاثين سنة الاخيرة . و يؤكدون بيقين المؤمن ان لا اختصاص للقضاء الفرنسى بقرارات رئيس الجمهورية بينما الاحكام الصادرة من القضاء الادارى و الدستورى الفرنسي موجوده و متاحة لو استطاعوا قراءاتها و فهمها لما ثارت مشكلة اصلا.
رابعا. ان حرمان الافراد من حقوق الطعن و اللجوء لقاضيهم الطبيعى كان ايضا معتبرا كعمل من اعمال السياده فى نظر الفقيه الجهبذ الذى وضع الاعلان الدستورى الصادر فى ٢١ نوفمبر! بما فى ذلك من عدوان مزدوج من ناحيه على حق المواطن فى اللجوء للقضاء و من ناحية اخرى على الاختصاصات الدستورية للقاضى. و فى ذات السياق و بذات التكييف لا يجوز ان يعزل نائب عام من منصبه بقرار جمهورى و بالارادة المنفرده لرئيس السلطه التفيذية و ان يعين اخر بذات الاراده و بدون الاجراءات و الضمانات التى تضمنها الدستور و قانون السلطه القضائية فى التعيين . فكل هذا البله ليس من اعمال السيادة فى شئ و انما هو نوع من القرصنه و القرارات غير المشروعة.
خامسا. و ماذا لو علموا بان القضاء الدستورى الفرنسي يخلق ما يسمى بالمبادئ ذات القيمه الدستورية و يستلهمها من نصوص عديدة بعضها موجود فى تشريعات اساسية كبرى او فى معاهدات لحقوق الانسان و لا وجود لها اصلا فى الدستور ؟ اين حريه تكوين الجمعيات فى الدستور الفرنسى ؟ و اين مبدا احترام الكرامة الانسانيه ؟ و اين مبدا استقلال الاساتذه الجامعيين و استقلال القضاء او فصل السلطه التنفيذيه عن السلطة القضائيه ؟ كلها مبادئ دستورية من صنع القاضى الدستورى الفرنسي فى اطار رقابته السابقه على الدستوريه التى اعتبرها عباقرة القانون فى مصر رقابة سياسية محضه. بل اكثر من ذلك فقد خلق القاضى الدستورى موجهات دستورية جديده تقيد ارادة المشرع و منها “الغايات ذات الطبيعة الدستورية” او ما يسمى “بالاهداف الدستورية للتشريع و مدى بعده عنها” . فيجازى التشريع و يقضى بعدم دستوريته اذا لم يحترم الاهداف الدستورية التى وضعها له القاضى الدستورى و لا نص عليها فى الدستور ذاته . لا شك ان رد فعل طرة من الفقه الدستورى المسيس فى مصر قد يبدا بالاغماء و قد ينتهى بالصراخ و العويل عندما يقراون حكما من القاضى الدستورى الفرنسي يقرر فيه عدم دستورية تشريع جديد لانه الغى ضمانات كانت موجوده فى التشريع الملغى دون ان يستبدلها بضمانات مساويه لها فى الفعالية و هو قيد هائل على ارادة المشرع. وهو ما يعرف فى فرنسا بنظرية “التشريع المرتد”.
سادسا. ومن الاهداف ذات القيمه الدستورية التى يجب ان يتوخاها التشريع و الا قضى بعدم دستوريته هو مبدا شفافيه و حسن صياغة التشريع و كم الغيت تشريعات فى فرنسا لهذا السبب وحده فهو فى ذاته قيد يفرض على المشرع رصانة العبارة و حسن الصياغة و دقتها و انضباطها مما يعنى استبعاد المفردات الانشائية او المطاطه و انتقاء الصيغ المعبرة عن قواعد معيارية و تتناول بدقه و احكام سلوك محدد. و لو خرج المشرع عن هذه الضوابط لقضى بعدم دستورية التشريع. و كل ذلك يقوم به القاضى الدستورى الفرنسي فى اطار الرقابه السابقة على دستورية التشريع و لاحكامه حجية الشئ المقضى به و تلزم كافة السلطات القضائية و التشريعية و التنفيذية فى الدولة. و من هذه الاهداف ايضا مبدا حماية تعددية المذاهب الفكرية و الفلسفية و السياسية و كل تشريع يهدد هذا المبدا و لا يكفله يتعرض للالغاء. فالمبدا ليس موجودا فى نص دستورى مكتوب و انما تصوغه احكام القاضى الدستورى. و لم يتهم احد فى فرنسا القتضىىالدستورى بالتسييس بالمعنى الذى يستهمه الفقه الدستورى المتحزب فى مصر.
فى النهاية لا املك الا التنبيه بمواطن القصور و مواضع الزلل و تكرار ما ردده غيرى باننا بصدد جهل نشيط يحكم البلاد و يدعى علما بما هو موجود فى فرنسا لتبرير انتقاداته العرجاء للقاضى المصرى بينما الجهل بالقانون الفرنسي واضح فى كثير من التصريحات. ان من واجبى كاستاذ مصرى يقوم بتدريس القانون الدستورى و الادارى الفرنسى منذ عشرين عاما بكليات الحقوق الفرنسية الا اقبل هذا العبث بالعلم فى سبيل السياسة.
بقى سؤال اخير : لماذا هذه البدائية و التاخر فى الاطلاع على تطورات المفاهيم الدستورية الحديثه و التى اصبح لها مضامين و ابعاد جديده فى العالم كله الا فى اعين بعض اساتذه القانون العام المصريين ؟حتى انه ل لازال بعضهم ينادى فى الجو المحتقن الحالى باعلان حالة الطوارئ فى البلاد باسرها و فرض الاحكام الاستثائية !!!
لماذا هذه البدائيه ؟ هذا هو ملخص الماساة.
د. وجدى ثابت غبريال
استاذ القانون الدستوري و الحريات العامة