استغربت كثيرا الدعوة التي طرحتها الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور للحوار مع الرافضين لمشروع دستورهم عشية المرحلة الثانية من الاستفتاء عليه. فالجمعية فيما أعرف، وأظنه صحيح،
استغربت كثيرا الدعوة التي طرحتها الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور للحوار مع الرافضين لمشروع دستورهم عشية المرحلة الثانية من الاستفتاء عليه. فالجمعية فيما أعرف، وأظنه صحيح، قد انتهت ككيان قانوني بعد أن قدمت منتجها في صورة مشروع الدستور كما تراه لرئيس الجمهورية. كما أنها كان لها من الزمن ستة شهور كاملة للحوار مع الجميع، في وقت كان لمثل هذا الحوار إن وُجِد تأثير على ما تصيغه من مواد إن كانت هناك رغبة في ذلك، أما أن تقوم الجمعية بدعوة للحوار بعد انتهاء عملها وأثناء الاستفتاء على ما انتجت فهذا أمر غريب وبحاجة إلى تفسير، إذ يبدو الأمر وكأنه مبارزة مع الخصوم وسعي لهزيمتهم امام الرأي العام قبل موعد المرحلة الثانية للاستفتاء.
والواضح أن أعضاء الجمعية التأسيسية فوجئوا كما فوجئت جماعاتهم السياسية بحجم الرفض الشعبي لمشروع الدستور في الجولة الأولى للاستفتاء. وسبب المفاجأة ان أبناء التيار الإسلامي ، واصحاب مشروع الدستور يعتقدون اعتقادا جازما أن الشعب المصري كله معهم خاصة في مسألة تضمين الشريعة بكاملها في الدستور، وأن هذا الشعب المتدين لن يمكنه رفض دستور إسلامي محافظ كالذي يقدمون.
وعلى مدى الأيام السابقة للاستفتاء رأينا رموز التيار الإسلامي بكل أطيافه ومعهم مشايعيهم من المدافعين عن مشروع الدستور يؤكدون ثلاثة أمور هي في حقيقتها أوهام، الأمر الأول، أن مشروعهم يقدم أحسن دستور في العالم من حيث إقرار الحقوق والحريات وضماناتها والفصل بين السلطات وتوزيعها، و أنهم واثقون من أن الأغلبية الساحقة من الشعب المصري معهم فيما ذهبوا إليه وخططوه وكتبوه في مشروعهم. والأمر الثاني، أن مشروعهم الذي هو مشروع الشعب يتعرض لمؤامرة كبرى يقودها الفلول والنظام السابق عبر أدواته في القضاء والدولة، ويستخدمون في ذلك الإعلام الخاص الذي يعمل على تضليل الجماهير وإثارة البلبلة. ويتعلق الأمر الثالث بحجم المعارضة الليبرالية واليسارية العلمانية ، وهي في نظرهم كيانات سياسية هشة لا تأثير لها وتعتمد في معظم فعاليتها ضد الدستور على حشد الأقباط.
وتحت ضغط هذه الأوهام قامت الرئاسة بارتكاب خطيئة الإعلان الدستوري الجديد الذي كان يهدف إلى محاصرة القضاء والذي تم فعليا باعتصام ابناء التيار الإسلامي ، كما تم محاصرة مدينة النتاج الاعلامي في نفس السياق، وبالرغم من كل هذا جاءت النتيجة المفاجئة لهم أن ما يقرب من نصف المصريين ضد مشروعهم، بالرغم من التجاوزات التي قاموا بها لتعديل النتيجة.
ومعنى الدعوة للمناظرة والمبارزة أن هؤلاء الناس لم يفيقوا حتى الآن من غيهم ، ولا يزالوا مصرين على المضي قدما في أوهامهم ، وحتى نقضي علىهذه الأوهام ونستعيدهم مرة أخرى في الجماعة الوطنية سنقول لهم بوضوح مرة أخرى لماذا نرفض مشروع الدستور.
فالدستور الذي بين أيدينا ليس جديدا على الإطلاق، إن هو إلا إعادة انتاج لدستور 71 الذي هو النسخة النهائية لدستور نظام يوليو. وبنية دساتير نظام يوليو منذ عام 1956 وحتى عام 1971 مبنية على فكرة الدولة الراعي للاحتياجات الاجتماعية، والدولة الوصي على سلوك الناس وتصرفاتهم. ولهذا السبب تحديدا إخترع المشرع الدستوري في عام 1956 باب “المقومات الأساسية للدولة والمجتمع” وهو من أعجب الاختراعات المصري في عالم الدساتير إذ يقرر ما على الدولة أن تقدمه من خدمات ، وأيضا يقرر وصاية الدولة الأخلاقية والاجتماعية على الأفرد والجماعات.
وأقول لأعضاء الجمعية التأسيسية ، هذا الباب توسع في دستوركم وجعل ما يرعاه المجتمع من أخلاق وآداب وظيفة للدولة تمنحها سلطة تربية خلق الله على مواصافتكم ، وإلا فليقل لي عاقل كيف ستقوم الدولة برعاية الأخلاق؟، في هذ الباب يتم التعدي على التنوع الثقافي والتعددية الثقافية وحق الإنسان في التعبير عن ثقافته وثقافة جماعته لأن الدولة هي التي تحدد المقومات الثقافية للمجتمع وترعاها .
وأقول لهم أيضا أنكم تدركون أهمية هذا الباب للسيطرة على المجتمع وفرض الحجب الثقافية عليه طبقا لتصوراتكم المحافظة الدينية، ولكونه أداة فعالة للسيطرة على مطالب الحقوق والحريات، ولهذا السبب أرتكبتم أكبر فضيحة في عالم كتابة الدساتير فيما يخص الحقوق والحريات. ففي نهاية باب الحقوق والحريات أضفتم فقرة أخيرة لأخر مادة أظهرت سوء نواياكم تجاه الحريات والحقوق، تقول الفقرة “تمارس هذه الحقوق والحريات بما لا يتعارض مع المبادئ الواردة في باب المجتمع والدولة من هذا الدستور” وأترك للقارئ الاستنتاج والتعليق.
إننا نرفض دستوركم لأنه نص مرواغ هدفه الالتفاف على حقوقنا وحرياتنا وإجبارنا على أن نعيش طبقا لرؤيتكم المحافظة الجافة المعادية للحضارة ، وكيف يمكن لنا أن نقبل دستورا يقول ان حرية الاعتقاد مصونة، ثم يتبعها بأن الدولة تعطي ترخيصا للصلاة؟، فالدولة التي نعرفها تعطي ترخيصا هندسيا للبناء ولا يجوز أن يكون لديها سلطة المنح أو المنع لبيت صلاة .
نحن نرفض دستوركم المراوغ وسنظل، حتى لو نجحتم في تمريره ، فنحن أحرار وسنظل، وقد أسقطنا نظاما استبداديا تمرس في الاستبداد لخمسين عاما ، ونعدكم أن نسقط هذا الدستور اليوم أو غدا وعندها ستردون حريتكم التي فقدتموها حين سيطرت على رؤوسكم الأوهام.