لم أعد أحلم بعد أن اقتربت من الثمانين سوي بالتكريم بعد موتي… هذه أقل حقوقي عليكم, بعد أن حوصرت في حياتي من المنتقدين. لأني وحيد لا شلة لي ولا مجموعة… هذه وصية الفيلسوف الدكتور عاطف العراقي قبل رحيله بعدة أسابيع… وها جريدة وطني تكرمه إنسانا ومفكرا أثري الحياة الفكرية بآرائه ومؤلفاته العظيمة…
وقد رتبت الإرادة الإلهية ألا يمضي هذا الرجل وحيدا بين جدران بيته إذ لا زوجة ولا أسرة… فجاءت النهاية في قاعة الدرس… رحل الأستاذ وسط طلابه بالمعهد العالي للدراسات الإسلامية مفضلا العمل علي الراحة التي نصحه بها الأطباء صباح ذات اليوم علي أثر تعب شديد مفاجئ بالجامعة… مضي معلم الفلسفة الذي وقف يوما ما أمام المحاكم مدافعا عن العقلانية والرشدية الجديدة… مضي وهو يتحاور وينتصر للعقل والفلسفة الرشدية التي عاش مخلصا لها فمثلت مشروعه الفكري منذ حصوله علي ليسانس الفلسفة- كلية الآداب- جامعة القاهرة عام 1957 ثم الماجستير عام 1965 والدكتوراه عام 1969 من نفس الكلية, وتخصصه في دراسة أعمال الفيلسوف العربي أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد (1126- 1198) حتي إنه انتقد (في حوار له ببرنامج الطبعة الأولي) فيلم المصير للمخرج الكبير الراحل يوسف شاهين الذي اعتبره أكبر إساءة للفيلسوف ابن رشد وتزويرا وإساءة لتاريخه…
لقد عاش عاطف العراقي متأملا زاهدا في الزواج والحياة العائلية مقتديا بذلك بأستاذه الفليسوف الدكتور زكي نجيب محمود, وله في ذلك رأي أن الحياة الزوجية بأعبائها وتفاصيلها قد تعطل مشروعه الفكري… ولو لم يتزوج ابن رشد (معشوقه ومثله الأعلي) لكان أنتج أعمالا أهم وأكثر.
والدكتور عاطف العراقي المولود في 15 نوفمبر عام 1935 بالدقهلية واحد من كتاب وطني الكبار علي مدار سنوات عديدة… عرفناه ملتزما متواظعا… دمث الخلق… بعيدا عن التعصب والشللية… مؤمنا بثقافة الحوار والتسامح… لقد حدثني كثيرا عن إعجابه بالأب المتنيح متي المسكين وبالدكتور الأب جورج قنواتي ومدي الصلة الوثيقة بينهما… هاتفته قبل الرحيل بعدة أيام للاستضاءة برأيه في أمر ما… وكان ثمة اتفاق بيننا علي إجراء حوار صحفي فكري مطول ولكن الموت سبقني إلي مقابلته وجري ما كان…
مضي عاطف العراقي بعد أن حصد كثيرا من الأوسمة والجوائز في مصر وخارجها… مضي تاركا إرثا كبيرا من الأفكار أثار بعضها الجدل مثل مشروعه لتغيير مسمي الفلسفة الإسلامية إلي الفلسفة العربية, ومن آرائه: إن النهضة في مصر بدأت منذ قيام رفاعة الطهطاوي الذي أرسله محمد علي باشا مع أول بعثة أرسلها لفرنسا ومن بعده وجدنا مفكرين كبارا في مختلف دول العالم العربي مثل: عبد الرحمن الكواكبي في سوريا ومالك بن نيي في الجزائر, ولكن النصيب الأكبر كان لمصر.. وجدنا بعد الطهطاوي محمد عبده وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود, وانتهي عصر الرواد بوفاة الدكتور فؤاد زكريا.
ترك عاطف العراقي أيضا أكثر من 60 مؤلفا في مواضيع فلسفية معاصرة وتراثية من بينها: ثورة العقل في الفلسفة العربية, الميتا فيزيقا في الفلسفة, الفلسفة الطبيعية عند ابن سينا, مذاهب فلسفة المشرق, النزعة العقلية عند ابن رشد, المنهج النقدي في فلسفة ابن رشد, تحقيق كتاب الأصول والفروع لابن حزم, كتاب يوسف كرم المفكر وأستاذ الفلسفة الذي توفي في خمسينيات القرن الماضي والذي تلقي عنه خطاب تقدير من بابا الفاتيكان الراحل يوحنا بولس الثاني, التنوير والمجتمع, ثورة في عالم النقد الذي كان آخر ما قدمه للمكتبة العربية…
والقارئ لمؤلفات الدكتور عاطف العراقي يقف علي حقيقة هامة جاهد وعاش لأجلها ألا وهي التنوير وإعمال العقل والإيمان بثقافة الاختلاف وغيرها من الأفكار البناءة التي نحن ما أحوجنا إليها في هذا الظرف التاريخي الذي تمر به البلاد…
رحم الله عاطف العراقي والإنسان وأضاء لنا الطريق بأفكاره الحية الباقية علي الدوام…