وضع الرب شخصيتين متناقضتين جنبا لجنب, أي المتكبرة والمتواضعة, الأولي تميزت بالكبرياء(نبع الخطيئة) والثانية بالتواضع (أم الفضائل). من جهة تكبر الفريسي بأعماله الحسنة من أعمال رحمة أو صوم, ومن جهة أخري تواضع العشار بسبب خطاياه. الأول متكبر والثاني منسحق القلب. سنحاول أن نري علي ماذا استند العشار لكي يخرج مبررا:
قصة رواها لنا الرب يسوع المسيح , ولكن عجيب هو أمر هذه القصة, وعجيب حكم الرب علي هذين الشخصين بهذه الطريقة.أليس هذا ما قد نقوله للوهلة الأولي؟إنه لأمر لافت للنظر.
فهل يرفض الله من يصلي ويصوم ولا يكون طماعا ولا ظالما ولا زانيا ويدفع من أمواله لبيت الله؟ وأيضا هل يرفض الله من يساعد الفقراء ويفعل الخير ويقدم النذور؟ وهل يشجع الله الخطأة الذين يرتكبون الخطايا؟
لو قرأنا هذه القصة جيدا وبشكل دقيق, لاكتشفنا معا بعض النقاط المهمة والمخفية لتعليمنا:
رجلان يصليان في بيت الله, كل علي طريقته الخاصة. أحدهما الفريسي: يصلي – علي ما يبدو – لله, لكنه في الحقيقة يركز نظره إلي الخاط_ الذي يقف بجانبه, وليس إلي الله, ويقـول: ## لست مثل هذا العشار الخاط_ ##, مقدما لله جرد شامل عما يمتلك من صفات حميدة وعما يقوم به من أعمال صالحة, وعلي ما يبدو أيضا فهو يطلب من الله أن يكون مقبولا لديه علي أساس هذه الجرد السليم .
أما الآخر الخاط_: يصلي من بعيد, ولا يجرؤ أن يرفع عينيه نحو السماء, يدق علي صدره, ولا يملك شيئا يقدمه لله, وعلي ما يبدو فهو يطلب من الله أن يكون مقبولا لديه علي أساس رحمته وغفرانه فقط .
لقد رأي هذا الفريسي نفسه صالحا ولا يحتاج إلي التوبة, لأنه كان يصلي ناظرا إلي العشار الخاط_ وليس إلي الله, ولأنه قارن نفسه أيضا بهذا الخاط_, لكــن… ماذا لو نظر إلي الله وقارن نفسه بصلاح الله وقداسة الله.. فهل كان سيري نفسه صالحا؟ وهل ستكفيه هذه الأعمال الصالحة ليكون مقبولا لدي الله؟
كانت صلاة العشار ذات خاصية مميزة فعند دخوله المعبد أحني رأسه وقرع صدره ووقف في آخر المعبد وصرخ: ##اللهم أرحمني أنا الخاطئ## (لو13:18). قرع صدره, حيث القلب, لأنه الحب والحنان والرأفة ,ولكن نبع الأفكار الشريرة أيضا التي تتحول فيما بعد إلي أعمال شريرة, ##لأن من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل , زني , فسق , سرقة , شهادة زور , تجديف## (متي 19:15). لم يتجرأ أن يرفع رأسه نحو السماء, لأنه قد أغضب الله بأعماله, كل كلمة قالها بتواضع عناها وشعر بها, وعندما رفعه الله لم يأخذ بعين الاعتبار فقط أقواله بل انسحاق قلبه وتواضع فكره.
إن لوم الذات هي فضيلة من الفضائل المؤدية للتواضع, وذلك بأن نلوم أنفسنا علي الخطايا التي نرتكبها, وهذا ما فعله العشار. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم بأنه لا يوجد دواء أفضل لغفران خطايانا من لوم الذات, وذلك بأن نتذكر باستمرار خطايانا ونلوم ذواتنا بسببها. حالة الإنسان الداخلية, كمعرفة الذات ولومها ودموع التوبة والتواضع, تؤثر بشكل مباشر علي خلاصه. الذي يلوم نفسه لا يستطيع أن يدين الآخر, يجد نفسه فقط ملاما. التواضع ولوم الذات هما المحركان اللذان سينقلاننا إلي السماء.
أما فيما يخص تواضع العشار لم يكن حالة أخلاقية اجتماعية, كما هي حالة أغلب المتواضعين منا. يشبه القديس باسيليوس الكبير تواضعنا هذا بـ ##الجرائم المشرقة##. أغلب أعمالنا هي خارجية وهدفها حب الظهور. نعتقد أنه بأعمالنا سنبرر, لدينا ثقة بالنفس مبالغ فيها, لا نترك مجالا للروح القدس كي يعمل فينا, نحاول تبرير ذواتنا بأعمالنا. إنه لخطير في الحياة الروحية أن تكون شهرتنا أكبر من فضائلنا. فقط التواضع, وليس الكلام عن التواضع أو التظاهر بالتواضع, يجعلنا نري فضائل الآخرين وخطايانا. الإنسان الذي يريد أن يخلص عليه أن يلبس رداء التواضع. المتواضع ليس ذاك الذي نشفق عليه بل الذي يساعدنا علي معرفة حالتنا الداخلية فنميز أهوائنا ونطلب رحمة الرب. بدون هذه الفضيلة لا نتقدم روحيا.
مثالنا في التواضع هو السيد المسيح الذي تنازل ولبس طبيعتنا البشرية لكي يرفعنا إليه. لا شيء يستحق أن نتكبر من أجله من ممتلكات وأراضي أو جمال أو أي مكانة اجتماعية, كل شي له بداية ونهاية ما عدا الله هو أبدي.
دعونا نفرغ ذواتنا ونبحث عن أهوائنا لنتنقي منها ونقترب من الله, عائشين بنعمته, متذوقين الملكوت السماوي منذ الآن. التواضع يجعل من أنفسنا أدني من الآخرين ولكنه يشير لله أننا نملك شيئا جيدا, هذه الدرجة من التواضع فلنقتنيها.