غم المناطق الشاسعة التي ينتشر فيها الجيش الأميركي, أو علي الأقل تلك التي تحظي باهتمام عسكري واسع, فضلا عن المئات من المناطق الأخري التي أرسل إليها جنود أميركيون, أو مرتزقة متعاقدون لإخماد ثورات عرقية, أو قبلية, أو دينية بعدما نصبت الولايات المتحدة نفسها كعدو للفوضي وعدم الاستقرار, يبدو أن الأمور بدأت تتداعي وتخرج عن السيطرة, ففي أفغانستان رأينا كيف أبدي الجنرال ديفيد ماكريستال تمرده علي الإدارة واستخفافه ببعض أركانها في تصريحات أدلي بها إلي مجلة أميركية في وقت يتحدث الرئيس الأفغاني المدعوم أميركيا عن السلام مع ##طالبان## ودعوته للقوات الأميركية وحلف شمال الأطلسي إلي مغادرة البلاد, وذلك بالتزامن مع ما أعلن عن اكتشاف كميات مهمة من المعادن الثمينة في أفغانستان مثل الذهب والليثيوم وغيرهما. أما في العراق الذي بشرت الإدارة الأميركية بدخوله مرحلة نسبية من الاستقرار بعد تجاوزه لفترة العنف والفوضي مازالت الصراعات مستفحلة بين المكونات الأساسية للشعب العراقي, فضلا عن التنافس الإقليمي بين الأكراد والترك والإيرانيين علي الاستفادة من مرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي. وبالطبع لا يمكن إغفال المناطق الأخري, التي لم تهدأ بعد رغم المحاولات الأميركية مثل الصومال واليمن ومنطقة الصحراء إلي درجة تدفع البعض إلي التساؤل ما إذا كانت الولايات المتحدة, هي فعلا القوي العظمي في العالم.
وتأتي هذه المشكلات التي تواجهها القوة العالمية الأولي وسط التصريحات التي أدلي بها وزير الدفاع الأميركي, في شهر مايو الماضي حول ميزانية الدفاع التي تضخمت علي مدي السنوات الأخيرة, بل حتي قبل الهجمات التي تعرضت لها نيويورك وواشنطن في عام 2001 من قبل تنظيم ##القاعدة##. رغم أن هذه الهجمات وما تلاها من حرب علي الإرهاب ##ضاعفت الإنفاق العسكري وميزانية الدفاع بمرتين تقريبا مقارنة بما كان في العقد الأخير##, والمفارقة أن هدف حماية الأمن الأميركي الذي تتوسمه الأموال الهائلة المخصصة للإنفاق العسكري, لم يتحقق ولم تنجح أميركا في إحلال الاستقرار في العديد من المناطق. ويبدو أن أركان الإدارة الأميركية أدركوا المبالغة التي تنطوي عليها الميزانية العسكرية الأميركية, وهو ما أكده وزير الدفاع بإشارته إلي أن ##الحنفية ستغلق من الآن فصاعدا##, وذلك رغم التحديات التي يطرحها الكونجرس وصعوبة تقليص ميزانية الدفاع في ظل الضغوط السياسية التي يتعرضها لها نواب الكونجرس الأميركي والعراقيل المرتبطة بالتسويق السياسي لخفض الإنفاق العسكري إلي مستويات معقولة, وللتدليل علي الميزانية المبالغ فيها التي تخصص للإنفاق العسكري أورد وزير الدفاع مجموعة من الأمثلة عندما تحدث أمام المؤتمر السنوي لسلاح البحرية الأميركي بداية شهر مايو الماضي, حيث قال إن أغلب البرامج العسكرية التي يجري تطويرها لصالح سلاح البحرية الأميركي, أو التي في طور الإنتاج بما فيها المشروعان الرئيسيان للبحرية, وهما ##سفينة المعارك الساحلية##, والبرنامج متعدد الخدمات المسمي ##سترايك فايتر##, اللذان يعانيان من نقص في الميزانية, وبالتالي يحتاجان إلي أموال إضافية, والسؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه هو لماذا هذه الأسلحة أصلا؟ وما حاجة الولايات المتحدة إليها؟
فحسب مسؤولين في سلاح البحرية يكمن الهدف من وراء بناء سفينة للمعارك الساحلية خوض صراعات في المياه الضحلة وتعقب الإرهاب والعناصر المتطرفة, والحال أن هؤلاء لا ينتقلون بحرا, ومن ثم لا نحتاج إلي بوارج ضخمة للقضاء عليهم.
وتابع وزير الدفاع الأميركي في معرض كشفه عن موازنة سلاح البحرية الإشارة إلي الأسلحة والقطع البحرية, التي هي أصلا في حوزة البحرية الأميركية بحيث تمتلك إحدي عشرة حاملة للطائرات, تجوب البحار والمحيطات وتواجه أساطيل العدو رغم أنه في العالم بأسره لا يوجد من يمتلك هذا العدد من البوارج ما يعني أنه لا وجود أصلا لأسطول عدو في البحار, بل حتي فرنسا التي شيدت بارجة قادرة علي حمل صواريخ نووية تفكر في إلغاء بناء الثانية, هذا في الوقت الذي تتوفر فيه الولايات المتحدة علي 57 سفينة حاملة للصواريخ بالإضافة إلي الغواصات النووية, بما يفوق ما هو موجود في العالم بأسره, ناهيك عن 79 سفينة مزودة بنظام ##إيجيس## للصواريخ تحمل ثمانية آلاف صاروخ.
وباختصار تعتبر البحرية الأميركية أكثر تفوقا من 13 سلاح بحرية في العالم بأكمله, وبالطبع كان بإمكان ##جيتس## الاستمرار في تعداد أوجه التفوق الهائل للقوات البرية والجوية الأميركية مقارنة بباقي الجيوش في العالم, لكن رغم هذه الآلة العسكرية الجبارة لم ينتج عنها السلام المنشود بصرف النظر عن النفقات العسكرية الأميركية التي تجاوزت علي مدي 65 سنة الماضية, التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ما أنفقه العالم بجميع دوله, فقد خاضت الولايات المتحدة حروبا, أو قامت بتدخلات عسكرية تحت عناوين متعددة في كل من كوريا والصين (من خلال قوات مرتزقة وقبائل التبت), وفي كوبا من خلال مواطنيها المنفيين علي التراب الأميركي وفي كمبوديا وفيتنام ولبنان وليبيا والعراق وإيران والصومال وأفغانستان وباكستان من خلال الضربات الجوية والقوات الخاصة, ناهيك عن نيكاراجوا وجرينادا وباناما والسودان وكوسوفو, بل هي أيضا تورطت في انقلابات عسكرية في تشيلي واليونان وجواتيمالا وغيرها من البلدان.
والهدف من هذه القائمة الطويلة هو التأكيد علي أنه رغم الأسلحة الفتاكة والميزانية العسكرية الكبيرة لم تنجح القوة العالمية الأكبر في إحلال السلام, وحتي خلال المعارك التي انتصرت فيها وهي كثيرة لم تفعل ذلك لوحدها, بل كان بمساعدة قوي أخري انخرطت في الأجندة الأميركية سواء عسكريا, أو سياسيا.
واشنطن بوست