حلت يوم الجمعة الماضي الذكري الأليمة الثامنة لكارثة 11 سبتمبر التي كتب عنها خلال السنوات الثماني الماضية كما هائلا من المقالات والتعليقات والبحوث العربية وذلك لعلاقتها الوثيقة بالعرب والمسلمين.
فهل تغيرت معطيات العقل العربي السابقة لهذه الكارثة أم بقيت علي ما هي عليه رغم أثر هذه الكارثة العظيم علي التاريخ البشري المعاصر بحيث لم تبق دولة من الدول ولا شعب من الشعوب إلا وتأثر بهذه الكارثة من قريب أو بعيد؟
لقد كانت كارثة الحادي 11 سبتمبر 2001, امتحانا كبيرا للعقل السياسي العربي الذي غاب في هذا المناسبة ولعبت الدور المطلوب بدلا منه العقلية السياسية العربية , وليس العقل العربي .
فعناصر تكوين العقلية العربية جاءت من الأساطير, والخرافات, والشائعات, والأحداث التاريخية غير الموثقة, والتدين الشعبي. وهذه العقلية هي التي تتحكم بالقرار العربي منذ زمن طويل وحتي الآن. وهذه العقلية هي التي تثير العواطف وتؤججها, ويستعملها كثير من الكتاب لإرضاء الجمهور ونيل استحسانه. في حين العقل يبقي الأداة الناقدة والمحاسبة, والدليل إلي الحقيقة والواقعية.
وانتظر العالم من العقل العربي كيف سيتصرف في كارثة بدت خيوطها الأولي وفي أيامها الأولي تقول أنها نسجت في حواضر المسلمين والعرب, ونفذها عرب مسلمون كذلك.
لقد تغير العالم, وتغير عقل العالم, بعد كارثة 11 سبتمبر 2001 , ولم تتغير العقلية العربية. وظلت العقلية العربية محافظة علي ثوابتها ##المكينة## السابقة, بعد هذه الكارثة, كما كانت قبلها, والتي تتلخص في:
- عدم الفصل بين النقمة علي الحكومات والانتقام من الشعوب.
- اعتبار النقمة علي الحكومات من قبل الغرب انتقاما من الشعوب.
- المناداة بقوة عسكرية عربية/إسلامية بديلة, للقيام بفض المنازعات الإقليمية, بدلا من الغرب الكافر.
- الإيمان بوجود صراع حقيقي بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية. ولا أدري أين هي الآن الحضارة الإسلامية؟
- الاعتقاد بأن الغرب يسعي جادا إلي هدم الإسلام, وعلينا جميعا الوقوف بوجه الغرب للحيلولة دون ذلك. فهل الإسلام مجرد حائط متهالك ؟
- الاعتقاد بالخرافات السياسية. وكانت من مظاهر هذه المكابرة وهذه الخرافات السياسية ما يلي:
1- القول إن ##طالبان## ومن معها من بعض ##العربان الأفغان##, قاموا بإنجازات لم تسبقها إليها الأنظمة الأفغانية السابقة.
2- القول إن ##طالبان## ومن معها من بعض ##العربان الأفغان## قد قاموا بتطبيق الشريعة الإسلامية النقية والصحيحة في أفغانستان, كما لم يسبق لها أن طبقت منذ نهاية عهد الخلفاء الراشدين إلي الآن.
3- القول إن ##طالبان## ومن معها من بعض ##العربان الأفغان## كانـوا من أطهر الأنظمة السياسية الإسلامية والعربية الموجودة علي ساحة العالم العربي والإسلامي الآن.
4- القول إن ##طالبان## ومن معها من بعض ##العربان الأفغان##, قادرون علي هزيمة أية إمبراطورية تقوم بقتالهم, كما سبق وتمت هزيمة الإمبراطورية البريطانية والإمبراطورية السوفيتية من قبل.
إن الذين تظاهروا في الشوارع العربية أمام كاميرات التلفزيون فرحا وغبطة, دون خجل أو عقل, عشية كارثة 11 سبتمبر 2001 هم جزء من العقلية العربية السائدة الآن, مهما حاولنا تبرير ذلك أو نفيه في بعض الأحيان. وكان لدي العقلاء الأمريكيين الحق عندما قالوا لنا علي لسان إدوارد ووكر, رئيس معهد الشرق الأوسط في واشنطن في مقاله ##رسالة مفتوحة إلي أصدقائي العرب##:
##هل نبتهج في الشوارع عندما يقتل الفلسطينيون أو غيرهم من المدنيين العرب, كلا. فلكم كل الحق أن تنتقدوا سياساتنا, لكن ابتهاجكم السمج لا يساعدنا إطلاقا علي التخلص من السياسات التي تنتقدونها بقوة وبأعلي أصواتكم.## (جريدة ##الحياة##, 2001/9/14).
فهل أفلس العقل العربي في معالجة مشاكله السياسية, ولم يعد لديه من سلاح يستعمله إلا سلاح الفقراء وسلاح الضعفاء, وهو ما أطلق عليه ##إرهاب الفقراء## أو ##إرهاب الضعفاء##, كمسوغ زائف لكارثة 11 سبتمبر 2001؟
ولكن الضعف هنا ليس القوة إلا من باب الاستعارة, ولا يمكن تحويل القوة إلي ضعف أو الضعف إلي قوة من خلال عمليات إرهابية علي نحو ما جري في 11 سبتمبر .2001
فالقوة لا تتحول إلي ضعف إلا بإزالة الأسباب التي صنعت القوة. والضعف لا يتحول إلي قوة إلا بالأخذ بالأسباب التي صنعت القوة.
إن كثيرا من الحقائق الأولية لكارثة 11 سبتمبر 2001 قد قفز عليها كثير من الكتاب والمحللين العرب, ليقدموا لنا تحليلات قريبة من الخرافة. وأن جملة التحليلات العربية كان يتأرجح بين النـزعة العاطفية التي تحجب العقل من ناحية, وبين الخضوع لـ ##نظرية المؤامرة##, و ##نظرية الفخ##, و ##نظرية صدام الحضارات## وغيرها من النظريات الهلامية من ناحية أخري. بحيث تتحول المناقشات إلي مجادلات شخصية عقيمة لا تحرم الجمهور من التنوير والوعي فحسب, بل تشحنه إلي الاتجاه المضاد للعقل والمنطق والفهم العلمي للأحداث##, كما قال محمد الرميحي في مقاله (الكارثة الأمريكية والإعلام العربي, ##الحياة##, 2001/10/3).
إن العقلية العربية مولعة بـ ##سحر البيان##. بل إن معجزة العقلية العربية الكبري هي ##سحر البيان##. وهي لا تتواني عن تشغيل هذه الآلية السحرية في كل مناسبة من المناسبات الكبري, وفي كل حادثة من الحوادث الجسيمة, ومنها كارثة 11 سبتمبر .2001 فالعقلية العربية في هذه الحادثة خطبت الخطابات النارية, واستعادت أمجاد العرب من هاشم بن عبد مناف إلي أسامة بن لادن. ودقت أجراس الحرب, وأعلنت أن الصليبيين قادمون, وأنهم يطرقون أبواب مكة المكرمة والمدينة المنورة وبيت المقدس, إلي درجة أزعجت أصدقاء العرب من المفكرين والسياسيين الغربيين الذين قالوا للعرب : يا ناس ليس هكذا تورد الإبل!
وقالوا مرة أخري علي لسان إدوارد ووكر في مقاله (رسالة ثانية إلي أصدقائي العرب, ##الحياة##, 2001/10/16): ##نريد منكم التعبير عن شكواكم السياسية ولكن ليس بالصياح. تجنبوا البلاغيات والروح السلبية. واقترحوا علينا السبل البناءة لتناول قضاياكم##.
فهل قدمت العقلية العربية حيال كارثة 11 سبتمبر 2001 موقفا سياسيا أو فكريا جديدا يختلف عن المواقف السياسية والفكرية التي اعتادت أن تقفها في الماضي, عندما تواجه مثل هذه الكوارث, أو مثل هذه الأزمات السياسية الكبري؟
وهل تغيرت القناعات العربية القديمة, وطريقة التفكير العربية القديمة القاصرة عن استبطان الحقيقة استبطانا معرفيا وعقلانيا سليما؟
فلا عجب إذن, وحال العقلية العربية علي هذا النحو من التردي والاستسلام للخرافات والأوهام واستنباط الحقائق من خلال سحب البخور وسطور التمائم, أن نكتشف أن ##تفكيرنا يصنع الفضائح والكوارث بقدر ما ينسج من الجهل والوهم والخداع##, كما قال المفكر اللبناني علي حرب في مقاله (سقوط ##طالبان## أو الأكذوبة والفضيحة والكارثة, جريدة ##السفير##, 2001/11/18).