أسقطت الثورات العربية التي انطلقت خلال هذا العام ديكتاتورها الثالث, غير أن مقتل القذافي الذي حكم ليبيا لاثنين وأربعين عاما هو أكثر من انتهاء رجل قوي آخر, فحتي في انهياره الأخير كان القذافي مختلفا عن الباقي, إذ فيما فضل ##بن علي## الهرب من تونس والنجاة بنفسه, وواجه مبارك مصيره بالوقوف أمام المحكمة, أصر القذافي علي البقاء في السلطة حتي الرمق الأخير, وهو بالفعل ما حصل عليه, عندما لفظ أنفاسه الأخيرة في شوارع سرت التي ولد فيها. لذا نقول إن نهاية القذافي المأساوية هي أكثر من مجرد زوال حكمه في ليبيا الذي دام طويلا وبزوغ فجر يوم جديد مع ما يوفره ذلك من إمكانات الديموقراطية والحرية, بل شكل أيضا فرصة لطي صفحة قاتمة في كتاب الاستبداد الفج والسافر, فقد كان القذافي آخر نوع من جنس منقرض يمثل عينة خاصة من ديكتاتوريي القرن العشرين, فالقذافي ورغم غيابه النهائي عن الساحة لن يدخل النسيان بسهولة, بل سيتذكره العالم بشخصيته الغريبة ومزاجه المتقلب ونظاراته الشمسية السوداء وهندامه غير المألوف, بالإضافة إلي شعره المدهون دائما, وحتي عندما كان يغادر ليبيا في رحلاته كان سلوكه غريبا ولافتا, فهو يصحب معه خيمته الفاخرة حيثما حل وارتحل, وكان حريصا علي إحاطة نفسه بحراس من النساء, لا سيما ممرضته الأوكرانية, وعندما تتاح له فرصة إلقاء خطاب ما, لا يكاد يتوقف ونادرا ما تجد من يفهم ما يريد قوله, وقد رأينا كيف استغرق خطابه للعام 2009 في الأمم المتحدة ساعة ونصف الساعة بدل 15 دقيقة المخصصة له.
كما أن أفكاره, إن صح وصفها كذلك, ستبقي حبيسة كتابه الأخضر الذي ضمنه نظرياته السياسية التي زعم بأنها تسلك طريقا وسطا بين الرأسمالية والشيوعية.
وفي الحقيقة كان هذا الكتاب أيقونة أخري من أيقونات تضخم ##الأنا## لدي العقيد الراحل, حيث كان علي أطفال المدارس استظهار ما جاء فيه عن ظهر قلب, وتكرار المقولات التافهة التي لم تترك لافتة إلا وعلقت عليها ولا محطة إذاعية, أو تليفزيونية إلا واستفاضت في شرحها وتأويلها, وبالطبع لم يكن القذافي مجرد قشرة فارغة من المضمون, فهو كان صاحب أفكار دفعته إلي اتخاذ مواقف ودعم جهات معينة مثل, منظمة التحرير الفلسطينية والجيش الجمهوري الأيرلندي, كما درب رجالا علي مناهج الاستبداد والاستفراد بالحكم التي كان يجيدها, وهو في رحلته العجيبة انتقل من تمويل الإرهاب إلي الانخراط المباشر فيه, عندما أمر في العام 1988 بتفجير طائرة ##بان آم## الأميركية فوق بلدة لوكربي الإسكتلندية لتخلف 270 قتيلا, لكن الجرائم التي حولت القذافي إلي زعيم هارب ومنبوذ ودفعته للاختباء في أنبوب لتصريف المياه, حيث عثر عليه, لم تكن تلك المقترفة في حق أطراف خارجية, بل كانت تلك المرتبكة ضد الليبيين, فكان أسلوبه في الحكم, وليس أهواؤه الشخصية وإرهابه الدولي ما بوأه مكانته كديكتاتور تقليدي يرجع إلي القرن العشرين, ومهما بلغت شدة غرابة القذافي التي كانت محط استهجان الغرب, تبقي قسوة حكمه وبطشه أهم صفاته في أعين الليبيين, فحتي مقارنة بأنظمة الشرق الأوسط التي لا تخلو من مستبدين يظل القذافي فريدا من نوعه وأكثر قمعا من غيره.
فلم يكن مسموحا في الدولة البوليسية التي كانت عليها ليبيا في عهده بحرية الصحافة, ولا بتشكل مجتمع مدني ومعارضة سياسية, وكان الجهاز الأمني دائم الحضور ليصل عدد أفراده حسب بعض التقديرات إلي 20 في المئة من السكان, فيما كان انتقاد القذافي ضربا من الانتحار, لكن الأنظمة الأكثر ذكاء في المنطقة وخارجها أدركت, حتي قبل وقت طويل من انطلاق الربيع العربي وعبث الثوار بالقذافي كخرقة بالية, أن تبني نهج العقيد سيكون مكلفا وخطرا, لذا سعت الأنظمة الأخري إلي إخفاء حقيقتها القمعية خلف واجهة مزيفة من الإجراءات القانونية والشرعية الواهية.
فعلي سبيل المثال لم يفرض بوتين نفسه بالقوة علي الكريملين, بل احترم الدستور الروسي, وقضي ولايتين رئاسيتين اختار بعدهما من سيخلفه ليعود مجددا إلي السلطة, ولو فرضنا أن بوتين سيرأس البلاد لفترتين مقبلتين, فإنه سيحكم روسيا لأربعة وعشرين عاما دون أن يخرق الإجراءات الديموقراطية, وليس بوتين الوحيد في ذلك, إذ يمكن الإشارة أيضا إلي مثال هوجو شافيز, فعلي السطح تبدو فنزويلا في عهده ديموقراطية منتعشة مع كل مظاهر التعددية وحرية الصحافة والتعبير, وإمكانية التصويت في الانتخابات المحلية وعلي مستوي الولايات وغيرها, لكن شافيز ومقربيه أنتجوا أسلوبا يحافظون فيه علي السلطة من خلال التلاعب بالانتخابات ورسم خريطتها مسبقا للتحكم في نتائجها, وحتي الحزب الشيوعي في الصين الذي لا يسمح بأي مناقشة لحكمه بدأ يرخي قبضته قليلا علي المجتمع, بحيث تنامت حرية الصينيين مع تغير مواقف الحزب من ##الطهرانية الاشتراكية## إلي تحقيق الرفاه الاقتصادي, والخلاصة أن تلك الأنظمة أدركت التكلفة المرتفعة للديكتاتورية الفجة والواضحة وأنها تستطيع تحقيق الأهداف نفسها, وهي بقاء النظام, بطرق ذكية, وهو ما لم يفهمه القذافي الذي لم تنسجم طريقة إدارته للدولة مع معطيات العالم المعاصر.
وربما يقول البعض إن القذافي وبتأثير من ابنه, سيف الإسلام, الذي درس في الغرب, قد بدأ في إدراك الدرس خلال الفترة الأخيرة, بعدما اشتدت عزلة ليبيا علي الساحة الدولية, وتحولت إلي بلد منبوذ وعاني الاقتصاد من تكلفة عالية, فكان أن تحملت طرابلس ابتداء من عام 2003 مسئولياتها في تفجير لوكربي, وقبلت بتعويض الضحايا وطي الملف, كما تعهدت بالتخلي عن برنامجها النووي وتدمير ترسانتها, وبعد رفع أولي العقوبات الدولية علي ليبيا عادت الاستثمارات الغربية في قطاع النفط الليبي, بل إن القذافي عبر عن رغبته في الانضمام إلي منظمة التجارة العالمية, لكن رغم كل ذلك ظل حكم العقيد مذموما من قبل غالبية الليبيين, واليوم وباختفاء القذافي من الساحة الذي بما مثله من نظام شمولي متضخم ##الأنا##, نكون قد طوينا صفحة من صفحات القرن العشرين الذي تعودنا طوال سنواته رؤية القياصرة والملوك والجنرالات والسلاطين يحكمون قبضتهم علي رقاب العباد.
ويليام جي.دوبسون, رئيس التحرير السابق لمجلة ##السياسة الخارجية## ورئيس قسم آسيا في مجلة ##نيوز ويك## الأميركية
واشنطن بوست