في الرابع عشر من يناير 2011, تنحي الرئيس التونسي زين العابدين بن علي من منصبه بعد أيام من تفاقم الشغب الذي صادف وقوعه بعد يوم من قيام وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون بانتقاد زعماء الشرق الأوسط بحدة أثناء خطاب لها في قطر, حيث اتهمتهم بالتسامح مع ##المؤسسات الفاسدة والنظام السياسي الراكد.## وفي تونس, أعلن أن رئيس الوزراء محمد الغنوشي قد تسلم السلطة كرئيس مؤقت. وقال الغنوشي إن بن علي كان ##عاجزا بصفة مؤقتة عن ممارسة مهامه.## (وأفادت محطات التلفزيون العربية أنه قد استقل طائرة إلي الخارج.) وقبل ذلك, كان بن علي — الذي حكم فترة دامت ثلاثة وعشرين عاما — قد وعد بالتنحي عندما تنتهي فترة ولايته في عام 2014 وإجراء انتخابات برلمانية خلال ستة أشهر. والآن يراقب العالم العربي ليري أي نظام آخر سيكون عرضة ,لوقوع مثل هذه التطورات], وما الذي سيكون رد فعل الولايات المتحدة.
الأسباب الجذرية
تزايدت التوترات داخل المجتمع التونسي بشكل ثابت علي مدي العقد الماضي. ووفقا لبرقية لوزارة الخارجية الأمريكية من عام 2009 سربها موقع ##ويكيليكس## ونشرتها صحيفة بريطانية أن: ##الرئيس بن علي طاعن في السن, ونظامه متصلب, وليس هناك خليفة واضح.## ولم تنبع الإحباطات من الضيق الاقتصادي فحسب بل أيضا من القمع الخانق وشيوع الفساد بصورة واضحة ومتزايدة داخل الأسرة الحاكمة. وقد شهدت السنوات القليلة الماضية عددا من الهزات التي لابد أنها قد أعطت الحكومة تحذيرا كافيا يتنبأ بالزلزال السياسي الحالي. وكانت مبادرات عمالية منسقة حدثت في عام 2008 قد جمدت صناعة التعدين في الريف لمدة ستة أشهر. كما أن الاحتجاجات قد أجبرت الحكومة في العام الماضي علي التراجع عن قرار بدا أنه يحابي فقط التونسيين القريبين من عائلة بن علي.
وكانت هذه الاحتجاجات وغيرها كبيرة ومنظمة جيدا لكنها وقعت في محيط البلاد الجغرافي والسياسي, ولم تلاحظها الصحافة الدولية إلا بصورة قليلة. وعلاوة علي ذلك, فإنها لم ترتبط كلية بالضيق المتجذر في المجتمع التونسي. ومع ذلك, ضحي شاب تونسي بنفسه في ديسمبر الماضي بعد إحباط واضح أصابه عندما تم منعه من بيع خضروات في شوارع مدينته. وبموته لخص محمد بوعزيزي الذل وقلة الحيلة التي يشعر بها كثيرون من التونسيين يوميا. والآن فإن الشباب التونسي — الذين يشكلون الغالبية العظمي من السكان — لديهم رمز يلتفون حوله, ويخلقون ما أصبح بسرعة يمثل تمزقا أساسيا للدولة.
وقد اشتعلت المظاهرات بسبب العديد من العوامل, أهمها المزيج الفعال بين البطالة والبطالة المقنعة. فالبطالة التونسية كانت ومنذ زمن طويل مرتفعة بوضوح — أكثر من 13 بالمائة في 2009 — لكنها تفاقمت في الآونة الأخيرة بسبب تركزها في صفوف الشباب المزدهر من بين مجموع السكان. ووفقا لـ ##البنك الدولي## فإن ما يقرب من 30 بالمائة من التونسيين ممن تتراوح أعمارهم بين 20 إلي 24 عاما هم عاطلون, بينما يواجه خريجو الجامعات الشباب نسبة بطالة تقارب 25 بالمائة. وعلي الرغم من أنه يتم تعليم الشباب بمعدلات أعلي, إلا أن هذه الدراسة لم تترجم إلي فرص اقتصادية محسنة.
وقد كانت السنوات الأخيرة صعبة بشكل خاص علي الاقتصاد التونسي. ونتيجة التباطؤ الاقتصادي العالمي واجهت الدولة تقلصات اقتصادية بين عامي 2007 و .2009 وقد كان هذا يعني وظائف أقل وخاصة في السياحة وهي القطاع الرئيسي الذي يتوافق مع رغبات الأوروبيين الذين ينشدون مكانا أرخص تحت شمس البحر المتوسط. وفي هذه الأثناء تزامن الهبوط في عائدات الدولة مع الجهود الجارية لتطبيق إصلاحات اقتصادية منها برنامج غير شعبي لتقليل الدعم بصورة تدريجية علي بعض السلع من بينها الطعام. وفي الثمانينيات من القرن الماضي, التقت المحاولات المبكرة لتقليل الدعم مع أعمال الشغب ومن ثم تم إلغاؤها. وقد طبقت ارتفاعات الأسعار الأخيرة في الصيف الماضي.
وقد تفاقم السخط الشعبي بصورة مفرطة فقط بسبب تجاوزات حكم النظام الاستبدادي, حيث كان التونسيون منذ فترة طويلة علي بينة من القمع الذي تمارسه الدولة. لكن في الآونة الأخيرة — وبمساعدة الشبكة العنكبوتية — أصبحوا مطلعين بصورة جيدة علي الفساد الجشع لـ بن علي وزمرته الحاكمة. ووفقا لبرقية وزارة الخارجية الأمريكية من عام 2009 الآنفة الذكر فإن: ##الفساد في الدائرة القريبة من السلطة يتنامي بل حتي عامة الشعب التونسي أصبحوا الآن يدركون ذلك, بينما يتصاعد صوت الشكوي.## وقد وضحت البرقية بالتفصيل كيف أن أسرة ابنة بن علي قد احتفظت بـ ##نمر كبير## أطلقت عليه اسم باشا يعيش في قفص ويلتهم أربع دجاجات يوميا## مما يذكرنا بــ ##قفص الأسد الخاص بعدي صدام حسين في بغداد.##
احتمالات عدوي إقليمية
تزامن الشغب التونسي مع اضطرابات مدنية وقعت في الجزائر والأردن حيث واجهت الدولتان تحديات متشابهة ضد البطالة والبطالة المقنعة. ومع تمتع الجزائر بعوائد كبيرة من احتياطيات تصدير النفط والغاز, والدين الخارجي المنخفض فإنها في وضع مالي أفضل من تونس. لكن انخفاض أسعار النفط العالمية في عام 2009 قد ضغطت علي خزائن الدولة بينما تأثر الجزائريون بأسعار السلع العالمية الأعلي. ومثل تونس فإن الجزائر هي دولة شمولية حيث إن نظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة قد حصل علي نقاط أفضل قليلا فقط من تونس, وفقا لتقييمات مؤسسة ##فريدوم هاوس##. ومع ذلك فربما أهم وجه شبه بين الدولتين هو أن لدي الجزائر أيضا شبابا صغار العمر يعانون من فرص اقتصادية بائسة. وعلي الرغم من أن معدل البطالة في تلك البلاد قد انخفض من أكثر من 15 بالمائة في عام 1995 إلي 10 بالمائة اليوم إلا أنه ما يزال مصدرا رئيسيا للاستياء.
وقد شهد الأردن أيضا اضطرابات مدنية في الأسابيع الأخيرة. ورغم أن الكثيرين قد شبهوا هذه الاضطرابات بتلك التي وقعت في تونس والجزائر إلا أنها كانت قد أثيرت أكثر بسبب التوترات القبلية حتي إن كانت متصلة بالفرص الاقتصادية. وتتعامل المملكة مع الشغب ضد الحكومة في معان — وهي مدينة قفراء لها تاريخ طويل من الاحتجاجات — بأقصي درجات الجدية. فعلي سبيل المثال, أعلن الملك عبد الله أنه سيعيد مؤقتا دعم الدولة لبعض السلع الأساسية عن طريق تخفيض الأسعار. ويبدو أن واشنطن تشعر أيضا بالقلق لدرجة أنها زادت حزمة مساعداتها للأردن بمائة مليون دولار هذا العام — ضامنة بذلك بالفعل دعم عمان — للمساعدة علي تفادي السخط الشعبي.
ورغم أن هذه هي الدول الوحيدة التي شهدت حتي الآن سخطا شعبيا إلا أن العديد من الأنظمة العربية الأخري قلقة من الأعراض الجانبية لهذه التطورات, وبالتالي اتخذت خطوات لعزل نفسها. فقد خفضت ليبيا والمغرب — مثل الأردن– الأسعار علي سلعها الرئيسية. كما أن مصر — التي كانت أزمة القمح لديها عام 2008 حادة جدا لدرجة أنه تم استدعاء الجيش لصنع الخبز للسكان — تراقب بلا شك هذه التطورات عن كثب.
ما الذي في استطاعة واشنطن وأوروبا عمله؟
إن الجانب الأكثر لفتا للنظر في الاحتجاجات التي شملت جميع أنحاء تونس هو أنها ذات صبغة شعبية كاملة. فتأكيدات الرئيس بن علي بأنه تم التحريض للاضطرابات من قبل عناصر خارجية كما أن متطرفين هم الذي كانوا يقودونها, لم تؤدي سوي إلي تعزيز الشكوك العامة حول الدرجة التي كان فيها الرئيس التونسي غير ملم بالأحداث ومنفصلا عنها.
ويكمن التحدي الذي تواجهه الآن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في ضمان انتقال سلس لحكومة جديدة. ولدي الولايات المتحدة نفوذ في تونس هو أقل بكثير مما للاتحاد الأوروبي وفرنسا. (وكما عبرت عن ذلك البرقية المسربة لوزارة الخارجية الأمريكية: ##وفقا لعدة مقاييس, ينبغي أن تكون تونس حليفا وثيقا, لكنها ليست كذلك.##) فالولايات المتحدة لا تقدم أية مساعدات اقتصادية لتونس, كما أن برنامجها التمويلي العسكري زهيد وهو ما تؤكده شكوي تونس. ورغم ذلك, تقدم تونس تعاونا مهما لمكافحة الإرهاب, وقد اعتبرت نموذجا إقليميا يحتذي به أثناء إدارة الرئيس الأمريكي بوش. ومع ذلك, فإن الاتحاد الأوروبي هو من يدعم الاقتصاد التونسي من خلال ضخ نقدي ضخم, فضلا عن علاقته التجارية القوية مع هذه البلاد.
الخلاصة
إن الأحداث التي وقعت في تونس تظهر للعرب في جميع أنحاء المنطقة مدي الهشاشة التي وصلت إليها حتي الدولة البوليسية الأكثر تقدما عندما يواجهها مواطنوها بعزم. ومن غير المحتمل أن يغفل المصريون والأردنيون والجزائريون وغيرهم عن هذا الدرس. ووفقا لجميع المؤشرات تقريبا, من التعليم إلي الاقتصاد, تتبوأ تونس درجة أعلي بكثير من دول عربية أخري في المنطقة. غير أن فشل الحكومة في تحسين قاعدة شرعيتها, وضمان تعميم المنافع الآتية من الإصلاحات الاقتصادية, وخلق طريق لمشاركة سياسية ذات هدف, قد دفع الدولة إلي حافة الثورة. كما أنها قدمت أيضا رسالة تذكير مبكرة ومثيرة إلي إدارة أوباما في عام 2011 مفادها أن المقايضة المتصورة بين الاستقرار والإصلاح الديمقراطي هي مقايضة زائفة, وأنه علاوة علي ذلك, فإن ما يتصوره المرء مستقرا يمكن أن يتغير في غضون أيام.