اهتمام العالم بالانتخابات الأمريكية, الرئاسية منها والبرلمانية, ليس بطرا, أو ترفا فكريا كما يتصور البعض, بل ضرورة يفرضها الواقع, فأمريكا هي الدولة العظمي الوحيدة في عصر العولمة ذي القطب الواحد وبقيادتها, ولما لهذه الدولة من دور مهم وتأثير واضح وكبير علي حياة الشعوب, وبالأخص في مجال الأمن والسلام والاقتصاد, إلي حد أن اقترح أحد الكتاب بأن من حق كل العالم المشاركة في التصويت لانتخاب الرئيس الأمريكي!! أما العراقيون فلهم سبب آخر يجعلهم يهتمون بمتابعة هذه الانتخابات, وذلك لما لنتائجها من علاقة مباشرة بأمن واستقرار ومستقبل بلادهم, العراق.
فالعالم اليوم يواجه تحديات كبيرة مثل الإرهاب المتلبس بثوب الإسلام السياسي, ومخاطر الدول المارقة مثل إيران التي تسعي لامتلاك السلاح النووي, تريد أن تحول العالم إلي غابة مدججة بالأسلحة النووية. وإيران يحكمها نظام ثيوقراطي يدعم الإرهاب كما هو واضح من دورها في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين.
والدولة الوحيدة التي تتمتع بالقدرة الكافية لمواجهة هذين الخطرين, الإرهاب المتأسلم وانفلات السلاح النووي, وإنقاذ العالم من شرورهما, هي بالطبع أمريكا. والموقف الأمريكي من هذه الأمور الخطيرة يعتمد علي سياسة الرئيس الجديد الذي سيحتل البيت الأبيض يوم 20يناير.2009 ومن هنا تنبع أهمية اهتمام العالم بهذه الانتخابات, وأي المرشحين للرئاسة هو الأفضل لأمريكا والعالم, السيناتور جون ماكين الجمهوري, أو السيناتور براكا أوباما الديموقراطي؟ ومن الأوفر حظا في الفوز في هذه الانتخابات الرئاسية التي ستجري في شهر نوفمبر القادم, أي بعد شهرين من الآن؟
الملاحظ أن معظم الكتاب والمحللين السياسيين يراهنون الآن علي فوز المرشح الديموقراطي, السيناتور أوباما. كذلك نلاحظ أن معظم الأحزاب ووسائل الإعلام ذات التوجه اليساري في الغرب, وخاصة البريطانية منها مثل صحيفتي الجارديان والإنديبندنت, بل وحتي مؤسسة البي بي سي المعروفة بالرصانة والنزاهة والحياد, هي الأخري خرجت علي تقاليدها وانحازت إلي أوباما, وهذا الانحياز ليس تهمة مني بل كان موضع نقاش حاد في محطة تليفزيون BBC1 نفسها صباح السبت 2008/9/6 . هذه الجهات تروج لأوباما وتدعم برنامجه بشكل ملفت للانتباه علي حساب جون ماكين.
أما الإعلام العربي, ومعظم القوي السياسية والحكومات العربية, فهي أيضا تتمني الهزيمة للمرشح الجمهوري نكاية بالرئيس الأمريكي الحالي, جورج دبليو بوش, بسبب قيامه بإسقاط حكم صدام حسين, غير مدركين أن فوز أوباما هو لصالح إسرائيل ولصالح الإرهاب الإسلامي القاعدي والإيراني, ودون أن يفيد العرب في جميع الأحوال.
ولكن رغم هذا الضجيج الإعلامي الصاخب لصالح أوباما, والدعمان المعنوي والمادي الواسع له, لدي عدة أسباب تجعلني أن أسبح ضد التيار, وأراهن علي فوز المرشح الجمهوري, السيناتور جون ماكين, مع التأكيد علي ما يتمتع به السيناتور أوباما من مؤهلات شخصية فذة, وحيوية عالية, وكارزماتية نادرة, ولكن رغم كل هذه الخصال الحميدة, أري أن الشعب الأمريكي سيستجيب في نهاية المطاف لمصلحته ولاستحقاقات التاريخ, وسينتخب ماكين بدلا من أوباما.
أعتقد أن الشعب الأمريكي سينتخب ماكين, لأنه سيدرك أن مرحلة ما بعد بوش تتطلب شخصا متمرسا في إدارة الحرب ومواجهة التحديات, وعدم التفريط بما حققته أمريكا لحد الآن في حربها علي الإرهاب, وتقليم أظافر الدول المارقة, خاصة وأن النصر النهائي بات في متناول اليد, بل يجب مواصلة المشوار لإنجاز ما بدأه بوش وسار عليه حتي النهاية وعدم إجهاض النصر في اللحظة الأخيرة. أما أوباما فهو صاحب برنامج استسلامي متخاذل يقود إلي الهزيمة وإلي تدمير سمعة أمريكا كدولة عظمي وقائدة للعالم الحر, وجعلها والعالم رهينة للإرهاب والدول المارقة, والشعب الأمريكي قطعا يرفض ذلك.
ومن قراءتي وحسب فهمي وتحليلي للسياسة الأمريكية, توصلت إلي قناعة أن الحقائق المذكورة أعلاه أدركتها قيادة الحزب الديموقراطي جيدا, وتعلم أنه مازال أمام أمريكا الكثير من الأعمال الصعبة مثل مواصلة الحرب ضد الإرهاب, واحتمال شن حروب جديدة ضد بعض الدول المارقة مثل إيران بسبب إصرارها علي مواصلة برنامجها النووي, وتهديداتها المتكررة لأمن إسرائيل و##مسحها من الخارطة##, ودعمها للإرهاب, وتهديدها بإيقاف تدفق نفط الخليج إلي الغرب, فكل هذه التهديدات الإيرانية هي خطوط حمراء لا يمكن لأمريكا التساهل معها بغض النظر من سيحتل البيت الأبيض.
ولكن في نفس الوقت, فإن الحزب الديموقراطي لا يريد أن يتورط في هذه الحروب المحتملة وهو في السلطة, بل يري أنه من الأفضل له أن يواصل الجمهوريون ما بدأوه من حروب كسبوا خلالها خبرة واسعة بها إلي أن يكملوا المشوار.
ولهذه الأسباب مجتمعة, وقفت قيادة الحزب الديموقراطي ضد فوز السيناتور هيلاري كلينتون رغم إحرازها علي مجموع الأصوات أكثر مما حصل عليه أوباما, ولكن, وكما ذكر السيد أمير طاهري, في مقال له في هذا الخصوص في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية يوم 2008/9/5, قائلا: ##لقد فاز أوباما بالترشيح ليس لأنه حصل علي أصوات أكثر من كلينتون, ولكن بسبب نظام جديد للتمثيل النسبي الذي يفضل الخاسر.
لم يفز أوباما في أي من الولايات الكبري التي يجب علي الديموقراطيين الفوز بها من أجل الوصول إلي البيت الأبيض. وبمساعدة ماكينة الحزب, خطط لحرمان كلينتون من الوفود التي فازت بتأييدها في فلوريدا وميتشيجان, وهما ولايتان من بين أهم خمس ولايات. لقد فاز أوباما بتأييد الوفود في ولايات لم يفز فيها الديموقراطيون في الانتخابات الرئاسية منذ الستينيات##.
لذلك أعتقد جازما أن قيادة الحزب وقفت لصالح أوباما, لأن هيلاري أوفر حظا من أوباما في الفوز في الجولة النهائية مع ماكين. والديمقراطيون لا يريدون ذلك, أي يحاولون تجنب استلام السلطة في مرحلة المواجهات الصعبة.
صحيح أن الشعب الأمريكي يسير بخطي سريعة لنبذ العنصرية, ولكن لا يمكن لأي شعب أن يتخلص من العنصرية بشكل كامل, إذ أفادت استطلاعات رأي في أمريكا بأن مازال هناك نسبة من الأمريكيين وخاصة البيض منهم الذين صوتوا لهيلاري كلنتون في الجولة الأولي سوف لن يصوتوا لأوباما في الجول النهائية, وأن نحو 25% من البيض لا يريد رئيسا أسود لدوافع عنصرية.
كذلك, وكما جاء في مقال الأستاذ طاهري المشار إليه أعلاه, أن في الانتخابين اللذين فاز بهما المرشح الديموقراطي بيل كلنتون في التسعينيات, كان بفضل مرشح ثالث قوي (روس بيرو) والذي حصل علي 20 في المائة من الأصوات (عام 1992) وعلي 6 في المائة (عام 1996), وكانت كل هذه الأصوات تقريبا من الجمهوريين. فبدون بيرو, لم يكن كلينتون ليفوز بالرئاسة. أما الانتخابات 2008, فليس هناك مرشح ثالث يأخذ أصواتا من الجمهوريين.
موقف اليسار الغربي
يعتقد اليسار الغربي أن الديموقراطيين أفضل من الجمهوريين فيما يخص حقوق الإنسان, وحقوق المرأة والسود من الأصول الأفريقية. ففي بحث قيم للبروفيسور الفرنسي, إيف روكوت Yves Roucaute في صحيفة الفيجارو الباريسية, بتاريخ 4 سبتمبر 2008, بعنوان (جون ماكين ومصلحة فرنسا وأوربا) نجتزئ منه المقاطع التالية التي تخص موضوعنا, جاء فيه ما يلي:
أولا, أن برنامج أوباما الاقتصادي هو برنامج فرض الحماية الاقتصادية المغلقة في وجه أوربا وآسيا. أي سياسة مخالفة لأهم مبدأ من مبادي الرأسمالية, وهو الانفتاح علي العالم والمنافسة الحرة. كما ويريد أوباما إعادة النظر في الاتفاقات مع كندا, ويهاجم الاتفاق القائم مع كولومبيا. إنها سياسة التدخل المطلق للدولة في الاقتصاد, أي نموذج الأنظمة الاشتراكية السابقة, والتي ترفض العولمة, وتريد فرض ضرائب ثقيلة, وانتزاع أموال الأغنياء لصالح العمال, مما سيعطل النمو الاقتصادي. وأوباما في برنامجه هذا يستند لنقابة العمال وزعيمها Sweeney الذي هو صديقه.
ويسأل الباحث: هل الحماية الاقتصادية الأمريكية, ووضع الحواجز الجمركية هو لمصلحة أوربا؟ بالطبع كلا حسب رأي البروفيسور.
ثانيا, هل أوباما هو الوحيد الذي يريد مصالحة السود والبيض؟ الجواب أيضا, كلا, فهذه المصالحة ترسخت منذ 11 سبتمبر 2001 بفضل الجمهوريين. كما ويسأل الباحث, من عين عسكريا أسود وهو الجنرال كولن باول, ولأول مرة في تاريخ أمريكا, رئيسا لأركان القوات المسلحة؟ وكذالك تعيين وزيرة للخارجية من الأفارقة الأمريكان؟ بالطبع الجمهوريون.
ومن الذي بادر بمنح حق التصويت للسود؟ إنه الرئيس الجمهوري جرانت في عام 1870 بينما انتظر الحزب الديموقراطي حتي 1961 للاعتراف بالمساواة في الحقوق. فأبراهام لنكولن هو الذي أسس الحزب الجمهوري, وهو محرر العبيد السود, بينما الديموقراطيون فضلوا الحرب الأهلية لمنع تحرير الرق.
كذلك يسأل الباحث, من الذي سيمكن أول امرأة لدخول البيت الأبيض كنائبة رئيس الجمهورية؟ طبعا هو جون ماكين الجمهوري. ومن هنا يستغرب روكوت مستفسرا: إذن, فلماذا حملة اليسار الفرنسي الصاخبة ضد السيدة سارة بيلن, وهو الذي كان يهلل بالأمس لهيلاري لكونها امرأة؟
ويستنتج الباحث قائلا: ##كلا, لا يكفي القول بأن اليسار الديموقراطي الأمريكي ليس محتكرا الدفاع عن النساء والأقليات, بل يجب أن نضيف بأن الجمهوريين المخلصين لقيم الحرية هم يدافعون أحسن عن المرأة والأقليات وبلا أيديولوجيا##.
كما ويضيف الباحث قائلا: ##تبقي أخيرا خرافة أن أوباما سيغير في السياسة الخارجية لصالح السلام. وهذا الادعاء هو الآخر لم يصمد أمام أية محاجة منصفة. ففي 18 مارس الماضي كانت إيران عند أوباما لا تشكل تهديدا. بينما في 20 منه قال علي موقعه الإلكتروني إن إيران تشكل خطرا, وإذا ضربت إسرائيل فجواب أمريكي رهن بالكونجرس. كما ويقول أوباما إنه يجب التفاوض مع الإرهابيين, ذلك واجب, ثم يتراجع ليقول العكس.
الديموقراطيون اعترفوا بنجاح الجمهوريين في عملية إرسال قوات إضافية للعراق, عدا أوباما الذي قال العكس وعارض عملية الإرسال. ثم تراجع في 3 يوليو الماضي, وبدل أوباما الرأي معترفا بالنجاح, ليقول فيما بعد أنه نجاح عسكري وفشل سياسي!! يبدو أن ما يريده أوباما هو مغادرة القوات العسكرية العراق بسرعة ليعود قائلا بأنها يمكن أن تبقي قليلا. إنه غير مستقر, ويغير رأيه بسرعة, وما هو أكيد أنه غير معروف ماذا سيحل بالعالم مع أوباما##.
وأضيف إلي ما قاله الباحث الفرنسي, أن الديموقراطيين خذلوا المرأة عندما أفشلوا هيلاري كلينتون كمرشحتهم, بينما اختار الجمهوريون سارة بيلن لدخول المرأة البيت الأبيض لأول مرة. كما وأني أتوقع أن السيدة بيلن لديها مفاجآت سارة وكثيرة ستفاجئ بها الشعب الأمريكي والعالم بقدراتها غير المكتشفة بعد, وربما ستكون المرأة الأولي التي ستدخل التاريخ بتبوئها منصب الرئاسة للدولة العظمي, بعد أن تتبوأ منصب نائبة للرئيس.
مخاطر سياسة استرضاء الإرهاب
كذلك أن سياسة أوباما الاسترضائية الاستسلامية للإرهاب القاعدي الوهابي وللرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد, الداعية إلي التفاوض واللين معهما, تذكرنا بسياسة نفل تشمبرلين, رئيس الوزراء البريطاني في أواخر الثلاثينيات من القرن المنصرم, والذي اتبع سياسة استرضاء هتلر وعقد معه اتفاقية سلام, والتي أدت إلي الحرب العالمية الثانية دفعت أوربا بسببها 55 مليون ضحية ودمار مادي شامل, الأمر الذي دفع تشمبرلين إلي الاستقالة ليحل محله قائد قدير وحكيم وهو ونستون تشرتشل الذي تبني سياسة المواجهة الشجاعة مع الإرهاب النازي والفاشي, وألحق بهما الهزيمة الساحقة, وهو الذي قال: ##إذا رضينا بعار التنازلات باسم منع الحرب فسوف نجلب الحرب والعار معا##. لذلك فإن أمريكا بحاجة إلي رجل متمرس في فنون الحرب والسلام يقودها علي خطي تشرتشل مثل جون ماكين, وليس علي خطي تشمبرلين مثل بارك أوباما الذي لم يتعلم من التاريخ.
أما موقف أوباما فيما يخص العراق, فإنه كارثة بامتياز, لأنه إذا ما نفذ سياسته المعلنة في الانسحاب الفوري من العراق, فإنه سيعرض جميع ما تحقق من انتصارات علي الإرهاب إلي الخطر, وسيعيد العراق والمنطقة إلي المربع الأول, أي إلي الدمار, وانتصار الإرهاب البعثي-القاعدي, وعدم استقرار دول المنطقة.
أما السيناتور جون بايدن, الذي اختاره أوباما نائبا له في حالة فوزه, فهو صاحب مشروع تفتيت العراق إلي كانتونات طائفية وعرقية. وهذا سبب آخر يجعلنا نعتقد أن فوز أوباما سيكون كارثة علي العراق, وعلي أمريكا وعلي العالم كله. وهذا سوف لن يسمح له الشعب الأمريكي وصناع القرار في أمريكا أن يحصل مطلقا.
خلاصة القول, ليس من الحكمة بمكان أن يتخلي الشعب الأمريكي عن مشروع محاربة الإرهاب الذي بدأه الرئيس جورج دبليوبوش بعد كارثة 11 سبتمبر 2001, ويعرض نفسه لمخاطره ويفرط بكل تلك التضحيات في الأرواح والأموال الطائلة في حرب العراق وأفغانستان ومطاردة القاعدة وطالبان, ويجهض النصر النهائي الذي صار في متناول اليد, وينتخب شخصا مثل أوباما يفتقر إلي أية خبرة وتجربة, ومتذبذب ومتقلب الآراء والأهواء. وبناء علي ما تقدم, فإني أراهن علي فوز جون ماكين, وشخصيا أتمني ذلك, لأن المرحلة التاريخية الحالية تتطلب قائدا مجربا يقف بحزم في وجه الإرهاب الذي يهدد أمريكا والعالم.
طبيب وكاتب عراقي مقيم بلندن