من كان يصدق انتفاضة الشعوب العربية ضد الأنظمة الفاسدة من المحيط إلي الخليج.. من تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسلطنة عمان والأردن والجزائر والمغرب والعراق, حيث عمت الاحتجاجات العارمة مطالبة بالتغيير والإصلاح والحرية ولم تفلح محاولات النظم الحاكمة في امتصاص الغضب الشعبي.. حتي السعودية لم تسلم من عدوي الاحتجاجات… وطالب المثقفون بملكية دستورية وبمزيد من الحريات, لكن المراقبين يجمعون علي أن ما يجري من أحداث دراماتيكية مثيرة في ليبيا فاق الوصف والخيال وهي الدولة المرشحة افتراضيا لاحتلال المركز الثالث في قائمة التغيير بالعالم العربي بعد تونس ومصر.
اندلعت الثورة في ليبيا في17 فبراير الماضي, وحتي اليوم فشل العقيد معمر القذافي في حشد مؤيديه بالخروج لدحر الثوار الذين وصفهم بالجرذان ومدمني المخدرات, وخاض عمليات إبادة جماعية في غرب البلاد وبتدمير آبار للنفط لمعاقبة القبائل التي تخلت عنه, وذلك في رسالة بأن الفوضي ستعم ليبيا في حال رحيل النظام.
وقال شهود عيان من المصريين العائدين من ليبيا إن الجنود الأفارقة الذين استعان بهم القذافي من تشاد والنيجر ونيجيريا يطلقون النار عشوائيا ويهاجمون المنازل بالدبابات الأمر الذي نتج عنه سقوط أعداد كبيرة قدرت بالمئات وربما بالآلاف, فلا أحد يعلم علي وجه الدقة, فضلا عن استخدام الطائرات الحربية فيما اعتبر واحدة من أشهر جرائم الحرب في العصر الحديث.وفي بادرة اعتبرت الأولي من نوعها علقت الجمعية العامة للأمم المتحدة عضوية ليبيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الدولية.
وصفه الثوار بجزار ليبيا الثاني, ففي تونس ومصر لم يقتل الجيش أبناء الوطن بينما القذافي أمر ميليشياته وجيشه بقتل المحتجين.. أما جزار ليبيا الأول فهو الجنرال الإيطالي جرازياني قائد القوات الإ يطالية أثناء الاحتلال لما عرف عنه من فاشية مثل قائده موسوليني.
أجمع كثير من المحللين علي أن القذافي راحل لامحالة ولكن عبر طريق طويل من الدماء دون استبعاد احتمالات التدخل العسكري.
في دراسة حديثة قال معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدني المعروف بميوله الصهيونية إن هناك احتمالا أن يفقد القذافي السلطة بعد أن تنهار وحدات الكتائب والميليشيات التابعة له في مواجهة الغضب الشعبي فيما قال احتمال آخر بأن القذافي سوف يقرر القتال حتي آخر رصاصة بحسب تعبيره المشئوم.. وبالفعل هناك أنباء عن استقدامه لمزيد من المرتزقة الأفارقة عبر الحدود مع الجنوب وهو ما قد يؤجل الرحيل المحتوم.
قالت نفس الدراسة إنه علي عكس مصر وتونس حيث تشغل الجيوش المحترفة منصب الحكم في أوقات الاضطرابات فإن الجيش الليبي لم يكن أبدا جيشا متماسكا حيث يبدو أن القذافي قد حوله إلي أداة لحماية النظام ضد محاولات الانقلاب.
ولعل سجل حاكم ليبيا لايخفي علي العالم المتحضر, فقد وصفه الكاتب البريطاني جيفري روبرتسون في صحيفة الأندبندنت بأسوأ رجل في العالم معددا المحطات البشعة بامتداد حكمه الذي ناهز الواحد والأربعين عاما.
ولد قذاف الدم محمد عبد السلام بن حامد بن محمد القذافي-وهو اسمه بالكامل في7 يونية 1942 لأسرة فقيرة بشطيب الكراعيه في وادي جارف بمنطقة سرت شمال وسط ليبيا واشتهر والده بأبو ميناز ووالدته هي عائشة القذافي,ترعرع قذاف الدم وتعلم حتي المرحلة الثانوية في مدينة سبها بولاية فزان الجنوبية وفيها التقي بزملائه ممن تعاونوا معه في انقلاب 1969 ومنهم عبد السلام الجلود ومصطفي الخروبي وأبو بكر يونس.وبسبب نشاطه السياسي وتعاطفه مع الأفكار الناصرية فصل من المدرسة وانتقل بعدها إلي شمال البلاد حيث استكمل تعليمه الثانوي في مدينة مصراتة بولاية طرابلس.
في عام 1963 التحق وزملاؤه بالكلية الحربية في بنغازي وتخرج منها في سنة 1966 ثم أوفد إلي بريطانيا في دورة تدريبية عسكرية ولما عاد وزملاؤه استغلوا غياب الملك إدريس السنوسي عن البلاد وقاموا بعزله عن الحكم.
تزوج ثلاث مرات الأولي من معلمة طلقها لاحقا والثانية من فتحية نوري شقيقة الرائد الخويلدي الحميدي أحد الضباط الأحرار ويعيش الآن مع زوجته الثالثة صفية.
ذكرت وثائق دبلوماسية أمريكية سرية حصل عليها موقع ويكيليكس ونشرتها صحيفة الجارديان البريطانية أن الزعيم الليبي معمر القذافي يقود عائلة ثرية وقوية لكنها منقسمة ومختلة وظيفيا وتعاني من صراعات.وقالت الصحيفة البريطانية إن الوثائق السرية تسلط الأضواء علي ثمانية أفراد من أبناء الزعيم الليبي تزايدت حدة التنافس بينهم في السنوات الأخيرة إلي جانب القذافي نفسه وزوجته.
وأضافت أن السفير الأمريكي في طرابلس جين كريتز وصف في برقية دبلوماسية أرسلها إلي واشنطن في29 سبتمبر 2009 العقيد القذافي بأنه شخصية متقلبة غريبة الأطوار ,ويعاني من الرهاب الشديد,ويستمتع برقصة الفلامنكو وهي الرقصة التي يقوم فيها الراقص بخبط الأرجل مع الموسيقي,ويهوي سباق الخيل ويعمل علي الأهواء ويزعج الأصدقاء والأعداء علي حد سواء,ولديه خوف شديد من البقاء في الطوابق العليا ويفضل عدم التحليق فوق المياه.
وعن صفية الزوجة الثالثة وهي تنحدر من بنغازي قالت برقية السفير الأمريكي إنها تسافر بطائرة مستأجرة في ليبيا فيما ينتظرها موكب من سيارات المرسيدس لنقلها من المطار إلي وجهتها المطلوبة,لكن تحركاتها محدودة وتتسم بالتكتم والدقة.
القذافي لا يعتبر نفسه رئيسا لليبيا بل قائدا للثورة الشعبية منذ عام 1969 وحتي 1977 ومعجز ثورة التنمية البشرية في البلاد, وهو صاحب أطول فترة حكم لليبيا منذ أن أصبحت ولاية عثمانية عام 1551 وأقدم حاكم في العالم.. وفي المقابل تقول المعارضة إن القذافي يريدنا أن نصدق أنه المسئول الأول عن كل تنمية بشرية في عهده وكل هذا صحيح إذا سرنا علي منطق الطغاة في مسرح شكسبير.
برقيات أمريكية سرية نشرها موقع ويكيليكس أبرزت حجم الفساد بنشر ثروة عائلة الزعيم الليبي وقدرتها بنحو 32 مليار دولار نقدا في عدة بنوك أمريكية بجانب استثمارات مهمة في لندن ,كما سجلت البرقيات أن أبناء القذافي لجأوا إلي التهديد واستخدموا العنف أحيانا سعيا لضمان فوز شركاتهم ومصالحهم السياسية.. وأكدت وجود انقسام بين سيف الإسلام ثاني أكبر أبناء القذافي وخليفته المفترض وبين أشقائه الـ4 الآخرين مشيرة إلي أن القذافي كلف ابنته عائشة بمراقبة أنشطة إخوتها.
منذ بداية حكمه حدد القذافي توجهه نحو أفريقيا وقد لعبت الدول الأفريقية دورا مهما في تليين موقف أمريكا وبريطانيا بشأن قضية تفجير لوكيربي في21 ديسمبر 1988, تلك القضية التي استطاع العقيد علي مدي سبع سنوات أن يديرها بالمناورة تارة والتفاوض ودفع التعويضات تارة أخري للإفلات من العقوبات الدولية والنجاة بنفسه كمحرض للجريمة بحسب اعتراف الوزير الليبي عبد الجليل مستخدما الاقتصاد الليبي والعلاقات الأفريقية والدولية في خدمة معركته للبقاء في سدة السلطة.
وفي 19 ديسمبر 2003 تخلي القذافي رسميا عن برنامجه النووي فكانت الانفراجه في علاقات ليبيا بالعالم الغربي.
من أفكاره أن نظريته في الحكم تقوم علي سلطة الشعب عن طريق الديموقراطية المباشرة عبر المؤتمرات الشعبية كأداة للتشريع واللجان الشعبية كأداة للتنفيذ وهو ما شرحه في الكتاب الأخضر الذي ألفه في سبعينيات القرن الماضي, الذي يحتوي أيضا علي النظرية الاشتراكية أو العالمية الثالثة كما يسميها تمييزا لها عن الرأسمالية والماركسية.
منتقدوه طالما وصفوه عبر السنين بالرئيس الذي لعب بمسرح السياسة العربية لأكثر من أربعين سنة دور نجم الكوميديا علي مسرح الفنون أو دور المهرجالبلياتشوفي السيرك وهم يقولون إن مرجع ذلك سلوك القذافي الذي يوحي بالغرابة والدهشة سواء في ألوان ملابسه وطريقة تصفيف شعره وتنقلاته في حراسة من النساء الأفريقيات وإصراره علي الإقامة في خيمة عربية تصاحبه أينما ذهب وقيامه بتمزيق نسخة من ميثاق الأمم المتحدة في أول خطاب يلقيه أمام جمعيتها العامة فاعتبره الكثيرون شخصية سيكوباتية يصعب التنبؤ بتصرفاته, وصنفته مجلة تايم الأمريكية في مرتبة رابع أسوأ الحكام من حيث المظهر.
في تجربة شخصية قال الكاتب الصحفي سمير فريد إنه بعد أن استولي الملازم قذاف الدم علي السلطة في ليبيا جاء إلي مصر عام 1969 ورتب لقاء بين العقيد القذافي وقيادات الحركة النسائية في مصر آنذاك بمقر الاتحاد الاشتراكي.. وفي أثناء اللقاء كتب القذافي علي سبورة سوداء: الدورة الشهرية – الحمل -الرضاعة.. وقال إذا كان الرجل لا تأتيه الدورة الشهرية ولايحمل ولايرضع مثل المرأة فكيف تقولون إن المرأة مثل الرجل.
ووقتها لقنته لطيفة الزيات درسا لاينساه عاقل.. وختم الكاتب بأنه خرج من هذا اللقاء بيقين من أن ليبيا وقعت بين أيدي رجل بسيط العقل إلي درجة لاتمكنه من حكم أسرته فما البال بحكم شعب!.