في مثل هذه الأيام من عام 1969 تفجرت ثورة الفاتح من سبتمبر في ليبيا بقيادة مجموعة من شباب الضباط الأحرار قاموا بانقلاب ضد الملك وبدأ عهد جديد… ولعل الأربعين سنة من عمر الثورة الليبية حفلت بالمنجزات وفاضت بالأزمات والمفاجآت ومن ثم أثارت الإعجاب وأثارت الجدل كما أثارت العديد من العداوات… فماذا جري ويجري في ليبيا؟
في مساء الخميس 28أغسطس 2008 استضافت بنغازي الليبية بدعوة من قائد الثورة الليبية العقيد معمر القذافي أكثر من مائتين من شيوخ وزعماء وأمراء وسلاطين القبائل الأفريقية وهم يرتدون ملابسهم التقليدية بألوانها الزاهية ويضعون التيجان علي رؤوسهم ويمسكون بالصولجانات بأيديهم ويتزينون بالجلود وريش الطيور الملون وبالحلي المصنوعة من الخرز أو من عظام الطيور والحيوانات وذلك في لقاء غير مسبوق في تاريخ القارة الأفريقية بايع فيه المجتمعون القذافي لمنصب ملك ملوك وسلاطين وأمراء وعمد وشيوخ أفريقيا… وقد وضع الزعيم الليبي إمكانات هائلة تحت تصرف هذا التجمع من أجل العمل علي إنشاء الولايات المتحدة الأفريقية.
الخطوة اعتبرها بعض المراقبين في إطار السعي الليبي للفت الانتباه والفوز بمساحة تحت الأضواء مثلها مثل إصرار معمر القذافي علي الإقامة بخيمة في كل الدول التي يزورها واصطحاب عدد من النوق معه لكي يشرب من لبنها باعتباره سلوكا يجذب الأنظار ويضعه في دائرة الضوء بأكثر مما لو أقام في قصر ضخم من قصور الضيافة أو بجناح فندق… وبالمثل فإن اختياره لفريق من الحارسات بدلا من حراس يصب في نفس الاتجاه… وبمثل هذا الذكاء الليبي -كما يقول البعض- حافظت ليبيا علي مكان لها تحت الأضواء منذ عام 1969 وحتي الآن.
في عام 1973 أي بعد أربعة أعوام فقط من مجيئه إلي السلطة في ليبيا أطلق معمر القذافي نظريته الثالثة بهدف إزالة كل المعتقدات المستوردة من الخارج كالشيوعية أو الرأسمالية وغيرهما.
وتعتبر نظريته الإسلام أساسا للمجتمع علي أن تشارك جماهير الشعب الليبي في الإمساك بزمام السلطة السياسية واتخاذ قرارات الدولة,فأنشئت اللجان الشعبية في كل مكان بالبلاد وتشكل المؤتمر الشعبي في عام 1977 ليكون أعلي سلطة تنفيذية في ليبيا.
وبمقتضي ذلك ألغي مجلس قيادة الثورة وسحبت الصلاحيات الفعلية من المحافظين والوزراء وكبار المسئولين… وكان معني ذلك عمليا من وجهة نظر بعض المحللين تركيزا للسلطة والصلاحية في يد العقيد القذافي وحده.
هكذا تحولت ليبيا إلي اسم الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمي,وتحولت السفارات الليبية في الخارج إلي مكاتب ولعل الكتاب الأخضر الذي صدر في ثلاثة أجزاء في أواخر السبعينيات يحوي رؤية العقيد القذافي لليبيا الجديدة.
منذ عام 1983 بدأت المرحلة الأولي من مشروع النهر الليبي العظيم وهو المشروع الذي أنجز مع بداية القرن الجديد وحقق الطموح الليبي في استصلاح أكثر من 450ألف فدان بما يحقق الاكتفاء الذاتي في إنتاج الحبوب,وإن كان المشروع لم يفلت من انتقادات المعارضين إذ تصل تكلفته الإجمالية إلي نحو 30 مليار دولار. لكن الثابت أن ليبيا دولة صحراوية يغلب عليها الجفاف كما أن الأمطار علي الشريط الساحلي طفيفة ولا مفر من البحث عن المياه في جوف الأرض الليبية.
في عام 1988 وبامتداد سبع سنوات تعرضت ليبيا والعقيد القذافي شخصيا للحصار الدولي بقرار من مجلس الأمن والتهديد بإصدار مذكرة توقيف دولية بحق الزعيم الليبي وتكليف الإنتربول بتنفيذها حيال قضيتي إسقاط طائرة بان أمريكان فوق مقاطعة لوكيربي الإسكتلندية يوم 21ديسمبر عام 1988 وقتل فيها 270شخصا علي متنها,وطائرة يوتا الفرنسية فوق صحراء النيجر في 19 سبتمبر 1989 والتي أدت إلي مقتل 170شخصا هم مجموع ركابها.
وبذكائه نجح العقيد القذافي في تجنب مسئولية ذلك شخصيا عندما سمح بمحاكمة الليبيين الأمين خليفة (أفرج عنه لاحقا) والمقرحي (أفرجت عنه السلطات الأسكتلندية مؤخرا لأسباب صحية) في بلد محايد أمام محكمة أسكتلندية,ودفع التعويضات لأسر الضحايا وهو ما قبلته أوربا ورفضته أمريكا وقتها علاوة علي طرده منظمة أبو نضال من الأراضي الليبية. أيضا تعاون القذافي -كما صرحت صحيفة واشنطن بوست- عندما أرسل رسالة إلي الرئيس الفرنسي جاك شيراك في مارس 1996 وافق فيها علي إجراء محاكمة غيابية لستة ليبيين يتهمهم القضاء الفرنسي بتفجير طائرة يوتا وبتحمل النتائج المترتبة عن هذه القضية. وحكمت القضية بالسجن المؤبد للستة ومن بينهم عبد الله السنوسي مسئول الاستخبارات الليبية ونسيب العقيد القذافي وبدفع تعويضات لأهالي الضحايا.
في شهر سبتمبر 1998 أعلن القذافي عن تغيير مفاجئ وغير متوقع في السياسة الخارجية لبلاده وذلك قبل ثلاثة أيام من انعقاد مؤتمر قمة الجامعة العربية في القاهرة حيث أعلن إلغاء وزارة الوحدة العربية تأكيدا منه أن ليبيا جزء من القارة الأفريقية. وأبلغ القذافي مستمعيه أن أمله قد خاب في العرب بسب استسلامهم للشعور بالهزيمة.
وقع هذا الإعلان المباغت في وقت عجز فيه القذافي عن الفوز بالدعم العربي لمساعيه من أجل رفع العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة علي ليبيا منذ عام .1992 وقتها قال الزعيم الليبي إنه علي عكس موقف أشقائه العرب فقد ضرب ستة من رؤساء الدول الأفريقية عرض الحائط بقرارات الحظر الدولي وزاروه في ليبيا قادمين من بلادهم جوا. والمعروف أن القذافي واجه في الماضي من بعض أشقائه الأفارقة تهما بمعاونة حركات التحرر وبالتدخل في الشئون الداخلية للدول الأفريقية.
ثم جاء عام 2003 والذي قبل بداية تغيير البوصلة السياسية سواء في واشنطن أو طرابلس بعد تخلي ليبيا عن برنامج أسلحة الدمار الشامل وتخليه عن التعاون مع الإرهاب بعد قطيعة طالت عشرين سنة منذ قيام القاذفات الأمريكية بضرب منطقة شرت الليبية عقب ذيوع نبأ ضلوع السلطات الليبية في حادث تفجير ملهي ليلي في برلين يرتاده جنود أمريكيون.
وبحسب ما يحلو لإدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش أصيب القذافي بالرعب من الغزو الأمريكي للعراق. ففي 19ديسمبر2003 وبعد ستة أيام فقط من إخراج صدام حسين من مخبئه تخلي القذافي عن تاريخه الطويل في دعم الحركات الإرهابية العالمية في ثمانينيات القرن الماضي,ونبذ برنامجه لأسلحة الدمار الشامل. وفي غضون شهور كشف عن السوق السوداء التي أقامها العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان وبدأ يقدم معلومات استخباراتية عن القاعدة والجماعات التي لها صلات بالتمرد.وهكذا اعتبر المتشددون في إدارة الرئيس بوش أن التغيير الكامل والمفاجئ في بوصلة مواقف القذافي جاء إثباتا لصحة سياستهم المتعلقة بمواجهة محور الشر بلا هوادة الذي يضم أيضا كوريا الشمالية وإيران.
لكن محللين في المقابل يقولون إن أمريكا كانت تتفاوض مع ليبيا بشأن طائرة شركة بان أمريكان رقم 103 قبل غزو العراق بكثير!
يذكر أنه عقب رفع العقوبات الدولية وابتداء من عام 2003 سعت ليبيا لتحقيق خطة طموحة لإنتاج أكثر من ثلاثة ملايين برميل نفط يوميا بحلول عام 2012,وقامت بخصخصة 360شركة,وألغت الرسوم الجمركية علي جميع السلع المستوردة (3500سلعة) وذلك تمشيا مع سياسة السوق المفتوحة.
في شهر يونية 2004 فجرت صحيفة نيويورك تايمز قنبلة دخان بشأن تورط ليبيا في محاولة لاغتيال ولي العهد السعودي (وقتذاك) الأمير عبد الله. والقنبلة ألقت بظلال كثيفة من الحيرة والاضطراب علي أجواء الرقعة الجغرافية الممتدة من طرابلس إلي الرياض مرورا بالقاهرة.
ولد معمر في 7يونية 1942 ونشأ لأسرة فقيرة أقرب إلي حياة البداوة بشطيب الكراعية بوادي جارف في منطقة سرت في شمال وسط ليبيا. والده محمد عبد السلام بن حامد بن محمد القذافي الشهير بأبو منيار ووالدته هي عائشة القذافي. كبر معمر وتتلمذ هو وأخوته في مدرسة تحفيظ القرآن ثم بمدرسة ثانوية في مدينة سبها بولاية فزان الجنوبية. وهناك التقي معمر أقرانه ممن تعاونوا معه في انقلاب 1969 أمثال عبد السلام جلود ومصطفي الخروبي وأبو بكر يونس.
فصل معمر من المدرسة في سبها بسبب نشاطه السياسي المتعاطف مع الأفكار الناصرية فاضطر للانتقال إلي الشمال حيث التحق بمدرسة ثانوية في مدينة مصراته بولاية طرابلس. وفي عام 1963 التحق وزملاؤه بالكلية الحربية في بنغازي وتخرج فيها برتبة ملازم عام 1966.
بعد ذلك أوفد معمر إلي بريطانيا لحضور دورة تدريبية مدتها 9أشهر لاتقان فنون الإشارة والاتصالات ضمن تخصصه العسكري.
وقتها كون معمر وأصدقاؤه حركة الضباط الأحرار يجمعهم الحماس المشترك للزعيم جمال عبد الناصر. بعد أن عاد من بريطانيا هاله ما وقع للجيوش العربية من هزيمة أمام إسرائيل لكن إيمانه بأفكار عبد الناصر لم يهتز.
وفي غياب الملك إدريس السنوسي عن البلاد قام الضباط الأحرار بانقلابهم بعد عزل قوة الحرس الملكي والاستيلاء علي المنشآت المهمة.
تزوج ثلاث مرات الأولي من معلمة طلقها لاحقا والثانية من فتحية نوري شقيقة الرائد الخويلدي الحميدي أحد الضباط الأحرار وتزوج للمرة الثالثة من امرأة تدعي صفية.
عن أفريقيا يقول القذافي إنها في حاجة ملحة إلي الاستقرار السياسي حيث إنه تأكد أن نظام تداول السلطة لم ولن يحققه!! وبدون استقرار سياسي لا يمكن إنجاز أي برامج اقتصادية استراتيجية. ومن عوامل الاستقرار استمرار القيادة السياسية ووجود المرجعية السياسية والاجتماعية والقانونية.
المعروف أن القذافي يحلم بولايات متحدة أفريقية علي غرار الولايات المتحدة الأمريكية لتكون كتلتين ضخمتين عبر الأطلنطي من حيث المساحة الجغرافية والتنوع البيئي والكتلة البشرية هائلة العدد. ولكن شتان بين ولايات وولايات علي حد تعليق بعض المحللين.
في مايو 2004 انسحب القذافي من قاعة مؤتمر القمة العربية المنعقدة في تونس. وفي مؤتمر صحفي بخيمته التي نصبت في حديقة فيلا السفارة الليبية بالعاصمة التونسية حيث استبدل بملابسه الأفريقية الملابس الأفرنجية المزدحمة بالنياشين أعلن أمام حشد من الصحفيين ومندوبي وكالات الأنباء عن دولته المقترحة إسراطين كحل للقضية الفلسطينية عارضا علي الحضور كتابه الأبيض الذي يحوي أفكاره هذه.
وفي نفس المؤتمر ذكر القذافي أنه حارب الديكتاتورية في شخص صدام حسين قبل أن تحاربها أمريكا وأعلن عن رغبته في إقامة حلف بين الثورة الليبية والثورة الأمريكية التي قادها جورج واشنطن.
في مستهل هذا العام 2009 دافع الزعيم الليبي رئيس الاتحاد الأفريقي عن عمليات القرصنة قبالة السواحل الصومالية وذلك أثناء زيارته لمقر الاتحاد الأفريقي في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا حيث نقلت صحيفة ديلي ناشون الكينية قوله إن القرصنة نوع من التصدي للأمم الغربية الجشعة,وأن ما يحدث ليس قرصنة وإنما دفاع عن النفس وعن لقمة عيش الأطفال الصوماليين.
وفي بداية العام الجاري طرح القذافي مشروع توزيع الثروة النفطية البالغ قيمتها سنويا 32مليار دولار علي المواطنين الليبيين وترك الأمر للمؤتمرات الشعبية لكي تقرر بعد أن فشلت الدولة علي حسب تعبيره في إدارة المؤسسات العامة كالمدارس والمستشفيات وغيرها.
يقول البعض من المراقبين إن استحواذ القذافي علي السلطة مدي 40سنة متواصلة دليل علي نجاح أساليبه الثورية,لكن فريقا آخر يري أن النظام الجديد الذي استحدثه القذافي ليس إلا مجرد واجهة بينما السلطة الفعلية بقيت دائما في يده دون غيره.
المعروف أنه منذ تولي الزعيم القذافي قيادة الثورة الليبية كما يحلو له تسمية نفسه وحتي الآن حدثت العديد من القلاقل من جماعات معارضة ففي عام 1989 حدثت من جماعات متطرفة إسلامية,وفي عام 1993 سحق الطيران الليبي تمردا لوحدات عسكرية,وفي 1995 ضد جماعة إسلامية معارضة,وفي 1996 في برقة شرقي ليبيا… وبوجه عام لم تنجح جماعات المعارضة في الحصول علي تأييد واضح بين أبناء الشعب الليبي مما يظهر جزئيا السبب في أن العقيد القذافي يعد من أطول الزعماء العرب بقاء في الحكم.