قد تكون القمة الخماسية التي انعقدت يوم الاثنين في الثامن والعشرين من يونية الماضي واحدة من أهم القمم العربية . فالقمة ركزت علي موضوع واحد هو إعداد وثيقة لتطوير منظومة العمل العربي المشترك . وهذه الوثيقة سوف ترفع إلي القمة الاستثنائية العربية التي سوف تنعقد في ليبيا خلال شهر أكتوبرالمقبل . ولتطوير هذه المنظومة أهداف متنوعة قد يكون منها تحقيق الاتحاد العربي, كما جاء في مناقشات المؤتمر, وهو يتسع لأنواع شتي من المشاريع في المجالات السياسية والدفاعية والاقتصادية والثقافية وقد تطرق إليها المؤتمر أيضا.
هذه الأهداف والمشاريع كانت الشاغل الأكبر للعرب منذ قاربت الإمبراطورية العثمانية علي التفكك, وكانت هدفا للوطنيين العرب منذ بداية القرن الفائت . بل إن تحقيق مثل هذه الأهداف الاندماجية بات هدفا للشعوب في كافة أقاليم العالم, بدءا من أوروبا, ومرورا بجنوب شرق آسيا وأمريكا الشمالية, ووصولا إلي أمريكا اللاتينية.
ولما نشأت جامعة الدول العربية في منتصف الأربعينات, كان مفروضا عليها أن تكون بوابة العرب إلي تحقيق المزيد من التعاضد والتكتل والاندماج بين الدول العربية, ولكنها لم تنجح في تحقيق هذه الغاية . وكان من أسباب وأعراض إخفاقها الإهمال المتمادي للبعد العربي عند بحث قضايا المنطقة . وبدلا من أن يبقي هذا البعد في الذهن عند بحث هذه القضايا, وبدلا من الأخذ بعين الاعتبار أن تطوير الترابط والتفاهم والتعاون والتكتل بين الدول العربية يعزز قدرتها علي إيجاد حلول عادلة ومنصفة لقضايا فلسطين والعراق ولبنان والسودان, بات من الشائع اعتبار تقوية الروابط العربية وكأنها عامل إرباك يعرقل حل قضايا الأقطار والدول العربية . وبدلا من أن يكون استنهاض الطاقات العربية وسيلة, علي الأقل, لدعم جهود الدول العربية في شتي المجالات, بات استنفار العصبية المحلية (بلدي أولا) في مواجهة الرابطة العربية وكأنه هو الوسيلة المثلي لتحقيق هذا الغرض.
ولقد تسلل هذا النهج إلي أعمال جامعة الدول العربية نفسها, وذلك خلافا لما وعد به الآباء المؤسسون عندما وقعوا ميثاقها . ففي الخطب التأسيسية للجامعة وعد هؤلاء بتطوير الجامعة, وبتحقيق ما لم يتمكنوا من تحقيقه من أماني التوحد والتعاضد في المستقبل . ولكن الجامعة انتهت إلي الابتعاد عن هذا النهج بحيث تكرس نهج العروبة بالقطعة, أي أصبح شائعا بحث قضايا كل بلد عربي بمعزل عن قضايا البلدان العربية الأخري . وطبع هذا النهج أكثر قرارات الجامعة وتوصياتها ومشاريعها, بحيث أصبحت تتمحور حول قضايا قطرية بحتة . وانكمشت القرارات المتعلقة بالعلاقات العربية العربية, وتراجعت من حيث العدد والمضمون, وكأن الدول العربية صارت في غني عن تطوير علاقاتها البينية.
القمة الخماسية سارت في سياق آخر . هذا ما تقوله مداولاتها وقراراتها . فالتوصية بعقد قمتين سنويا بدلا من القمة الواحدة يعزز العلاقات بين دول المنطقة . وفي المناطق الأخري من العالم, أصبح من المألوف أن يعقد زعماء التكتلات الإقليمية المتقدمة إلي جانب القمة السنوية العديد من مؤتمرات القمة الاستثنائية كل عام إذا ما طرأت مشكلة إقليمية مهمة تستدعي مثل هذا المؤتمر . كذلك فإن إعادة هيكلة مجلس السلم والأمن العربي باتجاه تحويله إلي حكومة للمنظومة الإقليمية العربية يعزز فاعليتها . هذا ما ينطبق أيضا علي التوصيات الأخري التي اتخذتها القمة الخماسية سواء في مجال الأمن أو تطوير البرلمان العربي أو الإغاثة تخدم كلها عملية تطوير منظومة العمل العربي المشترك.
ولقد كان من الملفت للنظر أن تأتي هذه التوصيات في أعقاب انقسام المساهمين في القمة الخماسية إلي فريقين, كما جاء في البيان الختامي: فريق اقترح تحويل جامعة الدول العربية إلي اتحاد عربي, مع إدخال تعديلات ذات أفق اتحادي علي هيكلية الجامعة ومهامها ونشاطاتها, وفريق آخر اقترح التدرج في تطوير العلاقات بين الدول العربية . ولعله من الطبيعي أن تثير هذه المناقشات والتوصيات التفاؤل بين المعنيين بمستقبل النظام الإقليمي العربي, لولا أن الخبرات والتجارب لا تشجع هؤلاء علي الاسترسال في تفاؤلهم.
العبرة هي ليست في التوصيات والقرارات التي تتخذها مؤسسات العمل العربي الجماعي, سواء كانت المؤتمرات علي مستوي القمم العربية, أو المؤتمرات الوزارية, أو المندوبين إلي جامعة الدول العربية, إنما العبرة هي في التنفيذ . فهنا نجد أن هذه المؤسسات تفتقر إلي الفعالية وإلي الصدقية, وأن سجلها من حيث تطبيق قراراتها لا يبعث علي التفاؤل, بل بالعكس يثير الإحباط الواسع في المنطقة العربية, والكثير من السخرية مع الأسف خارجها . لقد وصفها أرنست هاس, وهو من أبرز علماء التكتلات الإقليمية في العالم, بأنها . . . مجرد مؤتمر دائم بين الحكومات يعمل وفق قاعدة الحد الأدني من التوافق . وهذا حكم متشائم علي فاعلية الجامعة ومؤسساتها, ولكنه ينطبق إلي حد بعيد علي واقعها . لولا ذلك لما كانت القمة الخماسية, مثلا, في حاجة إلي التوصية بإنشاء مجلس تنفيذي علي مستوي رؤساء الحكومات للإشراف علي تنفيذ مقررات القمم العربية, فهذا القرار صدر عن أول قمة عربية انعقدت عام ,1964 ولكن لم يعمل به إلا لفترة قصيرة.
إن مشكلة تنفيذ القرارات سوف تبقي علة العلل في العمل العربي الجماعي, سوف تواجه الذين يطمحون إلي تحويل المؤسسات العربية الإقليمية إلي صروح للتكتل والاندماج, كما تواجه الذين يؤثرون إبقاءها معابر للتعاون . فكيف يمكن التغلب علي هذه العقبة؟ هذا ما لم تجب عنه القمة الخماسية, فعسي أن تأتي الإجابة في قمم مقبلة.
* الخليج الإماراتية