أمام العالم العربي اختيار مهم بعد زيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش للمنطقة: إما أن يشمر عن ساعديه من أجل العمل علي حل الصراع العربي – الإسرائيلي الذي طال أمده واستنزف طاقات المنطقة كلها لآماد طويلة, مستغلا في ذلك ظروفا جديدة تجعل الحل ممكنا, أو يترك الموضوع كله لمرحلة زمنية أخري معتمدا في ذلك علي أن الزمن مهما طال سوف يعمل لصالح العرب ويجعلهم يحصلون علي حقوقهم المشروعة من خلال أشكال مختلفة من النضال والكفاح المسلح.
مثل هذا الاختيار كان موجودا طوال الوقت, وكان موضوع الصراع السياسي بين وداخل دول المنطقة علي تعدد أنظمتها السياسية والاجتماعية, وفي كل الأوقات شغل النخبة وصرف أنظارها عن مهام وتحديات أخري. وبنفس الدرجة من الأهمية أصبح هذا الاختيار مطروحا بعد مجموعة التطورات التي حدثت بعد خطاب الرئيس جورج بوش في 16 يوليو الماضي والذي بدأ ما بات معروفا بعملية أنابوليس. هذه العملية, مثل عملية مدريد وأوسلو وكامب ديفيد قبلها كانت مركبة من تحركات دبلوماسية وسياسية متعددة, بعضها علي النطاق الإقليمي, وبعضها الآخر علي المستوي الدولي, وبعضها الثالث داخل الساحة الفلسطينية, وساحات داخلية عربية أخري. فرغم ما يبدو من أن العملية الجديدة, مثل العمليات القديمة, كان للولايات المتحدة نصيب ودور كبير, فإن التجربة التاريخية تثبت أن دور وإرادة العالم العربي كانا أساسيين إما بنجاح العملية أو بفشلها أو سقوطها في المنتصف, مرتبين أوضاعا قلقة وصعبة.
وقد يبدو للبعض أن الاختيار العربي قد وقع بالفعل, فالدول العربية حضرت بالفعل مؤتمر أنابوليس, وكانت الجامعة العربية وأمينها العام في قلب الحدث, وحتي سورية حضرت بعد ظنون كثيرة. وبعد الحضور في المدينة التاريخية الأمريكية حضر العرب أيضا إلي باريس, وفي النهاية كانوا في استقبال جورج بوش تجاوبا مع مبادرته الأخيرة, وزيارته التي جاءت متأخرة, ولكنها كانت أفضل من ألا يأتي علي الإطلاق. ولكن المشكلة مع هذا الاختيار أنه يأتي من مؤسسات رسمية عربية تجاه الولايات المتحدة والعالم الغربي في العموم بينما تبدو الشعوب العربية وقد سارت في اتجاه الاختيار الآخر. وفي دول العالم المختلفة فإن السياسة الخارجية هي امتداد للسياسة الداخلية بوسائل أخري, ومن ثم فإن المفارقة بين الاختيار العالمي, والاختيار المحلي, سوف تحسب دوما لصالح الثاني لأنه الأكثر أصالة وأهمية في حسم الصراعات والمنازعات الدولية.
وفي الحقيقة فإن كل خيار من الخيارين كانت له مبرراته وجدارته الاستراتيجية, وكان بوسع أنصارهما أن يغرفا من التاريخ الأمثلة والأحداث التي تكفي للبرهنة علي وجهة النظر. وربما كان لأصحاب الاختيار الثاني ميزة أساسية هو أن البحث عن التسوية في الاختيار الأول يحدث في زمن الصراع والحرب, ومن ثم كان بالقدرة الاغتراف من الحاضر أيضا للتدليل علي فشل خيار السلام. ولم تكن إسرائيل قط بخيلة في عدوانيتها, وامتدادها الاستيطاني, ومطالبها الأمنية المبالغ فيها حتي بعد امتلاكها للقنابل النووية, ودلالها المفرط مع الولايات المتحدة ومن بعدها المجتمع الدولي كله. ودوما كان معني ذلك كله أن الآخذين بالخيار الأول كان عليهم السير علي طريق ممتلئ بالأشواك حتي ولو كانوا وحدهم هم القادرين علي استرداد الأراضي العربية المحتلة. وبشكل ما كانت الكراهية لإسرائيل وأفعالها, والولايات المتحدة وسياستها, أكثر عمقا من حب فلسطين والفلسطينيين, وفي أوقات لاحقة من حب للعراق والعراقيين. وبشكل ما أصبح الصراع مجالا للانتقام وإيلام الخصم الإسرائيلي أكثر منه وسيلة لاسترداد حقوق مشروعة; ومع هذا المنطق انفصمت العلاقة بين السياسة واستخدامات القوة المسلحة.
ومع كل ذلك يظل الخيار ملحا, والبداية فيه هي الحوار الداخلي داخل الدول العربية وفي العالم العربي كله وبأكبر قدر من الصراحة والنظر للمستقبل بعيون مفتوحة. وعلي عكس ما يقال من أن العرب يدخلون المفاوضات بينما توازن القوي ليس في صالحهم, ومن ثم وجب الانتظار حتي تحين لحظة يتغير فيها توازن القوي, فإن القضية الأساسية لم تكن قط اختلال توازن القوي بقدر ما كان استخدام توازن القوي المتاح بالمهارة والحرفية اللازمتين. وفي الحقيقة فإن اتخاذ المقاطعة الدبلوماسية والسياسية استراتيجية للتعامل مع إسرائيل كانت في جوهرها تنازلا عن استخدام هذا التوازن, وانسحابا غير مبرر من ساحة مواجهة حقيقية.
ولكن, من دون الدخول في تفاصيل وجهة النظر هذه فإن هناك عددا من المتغيرات الجديدة علي ساحة التوازن هذه يمكنها أن تعطي العالم العربي فرصا جديدة لم تكن متاحة من قبل. وعندما وصل سعر برميل البترول إلي مائة دولار كانت إسرائيل هي أول من عبر عن خشيته من تغير جوهري في موازين القوي في المنطقة. ومن الجائز تماما القول إن زيارة جورج بوش – بالإضافة إلي عوامل أخري – بعد سنوات من التمنع والرفض, كانت استجابة لهذا التغير. وهذه المرة فإن الارتفاع في أسعار النفط لم يكن قائما وحده, أو مترجما إلي أرقام فلكية من الأموال لا يعرف العرب كيف ينفقونها; وإنما تأتي أسعار النفط في وقت بدأ فيه العرب يعرفون الإصلاح الاقتصادي. ورغم عقبات ومثالب كثيرة فإن هناك الكثير مما يبشر في مصر والأردن وتونس ودول الخليج العربية كلها ليس فقط في ما يتعلق بالنمو المرتبط بأسعار النفط, وإنما النمو المرتبط بأشكال متقدمة من التنظيم الاقتصادي والإداري.
ويرتبط بهذا التغير علي الجانب العربي تغير آخر علي الساحة الاستراتيجية العالمية حيث تبدو الدول الغربية في لحظة مراجعة لكل السياسات التي لحقت بما جري في الحادي عشر من سبتمبر والتي كادت أن تحول المواجهة مع الإرهابيين إلي مواجهة مع العالم الإسلامي كله. هذه اللحظة من لحظات المراجعة تعطي الجانب العربي فرصة إضافية لأن حل الصراع العربي – الإسرائيلي أصبح واحدا من أهم بنود الحركة في المرحلة المقبلة سواء خلال إدارة جورج بوش أو الإدارة التي سوف تلحقه.
ومن المؤكد أن هناك تفاصيل أكثر لما يجري في هذه المرحلة, ولكن حسبنا هنا التأكيد أن الخيار الأول ليس تعبيرا عن ضعف بقدر ما هو تعبير عن فرصة متاحة نبعت من تغيرات جارية لمن يجرؤ ولديه الشجاعة والرؤية للمستقبل. وبالطبع فإن أنصار الاختيار الثاني سوف يتساءلون عن مدي مصداقية هذه التغيرات, ولكنهم سوف يقفزون فورا إلي استخدامها مدعين أن التغير في موازين القوي يعني وجوب الانتظار لفترة أطول حتي تنقلب الأحوال العالمية. ولكن توازن القوي أكثر تعقيدا من ذلك وترجمته إلي خطوات سياسية لا تقل تعقيدا, ودراسة هذا وذاك هو ما يحتاج الدراسة ويطلب الاختيار. ولكن أسوأ الاختيارات الممكنة سوف يكون بقاء الأحوال علي ما هي عليه, فتكسب إسرائيل استمرار احتلالها وهيمنتها, ويكسب الراديكاليون والإرهابيون ساحة لابتزاز الدول العربية وحتي دول العالم الأخري, وتخسر الدول العربية فرصة تاريخية للاستفادة من أموال طائلة يمكنها أن تأخذ العرب إلي القرن الحادي والعشرين. وأسوأ الاختيارات أيضا أن تبقي المفارقة علي حالها بين حركة عالمية لها اتجاه مع المستقبل, وحركة داخلية واقعة في أسر الماضي, فساعتها ربما لن تكون النتيجة الذهاب إلي الماضي أو الوصول إلي المستقبل, وإنما إلي الذهاب إلي طرق لا يعود منها أحد. ومن يشك في الأمر عليه مراجعة أحوال العراق والصومال والسودان ولبنان وفلسطين, ففيهم كثير من الدرس والعبرة؟!