كل إنسان متدين, يهمه بالضرورة أن يرقي إلي محبة الله. ولعل الكل يسألون: كيف يمكننا أن نصل إلي محبة الله؟ وسنضع أمامنا هنا بعض الوسائل.
* أنه ينبغي أولا أن تتأكد من هذه الحقيقة:
إن الله هو الكائن الوحيد الذي لا يمكنك أن تستغني عنه…
سواء في الحياة, أو في الحياة الأخري… كل خطوة من خطواتك تحتاج إلي حفظ الله وعنايته, كل طريق تسلك فيه يحتاج إلي معونة إلهية, وما أكثر ما تحتاج إلي إرشاد إلهي, وبخاصة حينما تري الطرق قد تشعبت أمامك, والأمور قد تعقدت. هنا تذكر قول الرب في الإنجيل: بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا يو 15:5.
إن الحياة مع الله, تغرس سلاما في القلب, وتبعد الإنسان عن الخوف, وتمنحه ثقة في وجوده.
فإن كنت لا تستغني عن الله, وهو لازم لك ولحياتك, فلتكن لك إذن علاقة معه.
وإن وصلت هذه العلاقة إلي درجة الحب, ستكون لك دالة أمامه حين تطلبه. وحتي دون أن تطلب, ستجده يدبر أمورك حسب مشيئته الصالحة. وأنت نفسك ستكون مطمئنا جدا في تسليم حياتك بين يديه.
لا تظن في يوم ما أنك تستطيع أن تستقل بنفسك, مستغنيا عن الله, مكتفيا بعقليتك وما وصلت إليه من معرفة وخبرة وقوة!! فإن هذا سيقطع الصلة بينك وبين الله. وربما تشعر أيضا في تلك الحالة أنك لست في حاجة إلي الصلاة.
ويأتي وقت وتقع في ضيقة, فتستيقظ…
وتعود إلي الله لتقول له: لست أستطيع يارب أن أستغني عنك. إنني محتاج إليك في مشاكلي. بل أنا محتاج أولا إلي الصلح معك, وإلي عودة علاقتي بك, أو إلي تكوين علاقة جديدة معك… ويسمع الرب ويتحنن ويستجيب, لكي يقودك إلي محبته… أتراك إذن في حاجة إلي ضيقات وتجارب لكي توصلك إلي محبة الله؟!
* للوصول إلي محبة الله, ينبغي أن تبعد عن كل محبة مضادة, وبالتالي تبعد عن شهوات العالم…
وقد ركز الرسول محبة العالم في: شهوة الجسد, وشهوة العين, وتعظم المعيشة 1يو 2:16. وقال: إن أحب أحد العالم, فليست فيه محبة الآب… والعالم يبيد وشهوته معه… 1يو2: 15, 17. ومن أجل أهمية هذا الأمر, فإن الكنيسة في كل قداس بعد قراءة الكاثوليكون, تردد علي أسماعنا قول: لا تحبوا العالم, ولا الأشياء التي في العالم 1يو 2:15. وقد قال القديس يعقوب الرسول: إن محبة العالم عداوة لله يع 4:4.
إنك لا تستطيع أن تعبد ربين, أو تخدم سيدين, مت 6:24. فإما محبة الله, أو محبة العالم.
كلما ازدادت محبة العالم في قلبك, فإن محبتك لله تقل. وكلما ازدادت محبتك لله, فعلي نفس القياس تقل محبتك للعالم وكل ما فيه, وتصبح كل شهواته تافهة في نظرك, كما قال القديس بولس الرسول: خسرت كل الأشياء, وأنا أحسبها نفاية, لكي أربح المسيح, وأوجد فيه في3: 8, 9.
إن الكنيسة بلغت قمة محبتها لله في عصر الاستشهاد, وارتبط ذلك بقيمة زهدها في العالم.
فالذي يشتهي شيئا في العالم, لابد أن يشتهي أيضا البقاء فيه. أما الذي يزهد العالم وشهواته فإنه يشتهي الانطلاق منه ليكون مع المسيح, فذاك أفضل جدا في 1:23. وهكذا من أجل محبة الله, كانوا يشتهون الاستشهاد. وكانت أصوات التسابيح والصلوات تملأ سجونهم, كما حدث مع بولس وسيلا وهما في سجن فيلبي أع 16:25.
ونسمع في قصة ستشهاد القديس أغناطيوس الأنطاكي, ءنه حينما أرسله الحكام إلي رومة لإلقائه إلي الأسود الجائعة, وأردا أهل رومة المسيحيون أن ينقذوه من الموت, أرسل إليهم القديس أغناطيوس رسالة يقول لهم فيها: أخشي أن محبتكم تسبب لي ضررا….
كانت في قلبه شهوة الموت, للالتقاء بالله…
أما الذي شهواته تكون في العالم, فإنه سيقول مع الغني الغبي: أهدم مخازني وأبني أعظم منها, وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي. وأقول لنفسي: يا نفس, لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين عديدة. فاستريحي وكلي واشربي وافرحي لو12: 18, 19… ولم يفكر ذلك الغني في الله, ولم يرد اسمه علي لسانه ولا في فكره, لأن قلبه متعلق بماله ومخازنه وخيراته الأرضية.
حقا, كما قال الرب: حيث يكون كنزك, هناك يكون قلبك أيضا مت 6:21, لو 12:34.
فأين هو كنزك يا أخي؟ هل هو علي الأرض حيث يفسد السوس والصدأ, وينقب السارقون ويسرقون مت 6:19؟ هل كل كنوزك هي شهوات العالم وألقابه وأمجاده وألوان المتع التي فيه. وهناك قلبك أيضا…!! إذن فقلبك خال من الله. والمحبة التي في قلبك, قد تحولت إلي العالم, ولم يعد لله فيها نصيب…
أتراك تستطيع أن تستمتع بالعالم, كما فعل سليمان؟!
الذي كانت له جنات وفراديس, وعبيد وجواري, ومغنون ومغنيات, وخصوصيات الملوك, ومئات من النساء. ومهما اشتهته عيناه لم يمسكه عنهما جا2: 4-10. وفي كل ذلك ابتعد عن الله: ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه 1مل 11:4… بل إنه استحق منه العقوبة التي استمرت مع نسله.
وكل ما تمتع به سليمان من متع العالم, قال عنه أخيرا: ثم التفت أنا إلي كل أعمالي التي عملتها يداي, وإلي التعب الذي تعبته في عمله, فإذا الكل باطل وقبض الريح, ولا منفعة تحت الشمس جا 2:11.
إذن, لا تجعل قلبك في شهوات العالم, فإن الباب الواسع لا يوصل إلي الملكوت مت 7:13:
متع العالم لن توصلك إلي الله, بل هي تبعدك عنه… وإن دخلت محبة العالم إلي قلبك, فسوف تري أن أفكارك ومثلك بدأت تهتز… وحينئذ ستناقش المثاليات التي كنت تؤمن بها, وتقول: وما المانع أن أفعل كذا وكذا؟! وما الخطأ وما الحرام في أن أتمتع بكذا وكذا. وتبدأ في سلسلة مساومات مع المبادئ والقيم!! والسبب في كل هذه الأسئلة والمساومات والمناقشة, وهو أن محبتك لله قد قلت…
إن بدأت محبة العالم تدخل إلي قلبك, فبالضرورة محبتك لله ستقل…
فهذه هي مأساة ديماس, التي سجلها بولس الرسول بقوله: ديماس تركني, لأنه أحب العالم الحاضر 2تي 4:9. وهذه هي أيضا مأساة كثيرين كان يذكرهم القديس بولس في رسائله, ثم تحدث عنهم في رسالته إلي فيلبي وهو باك وقال: الذين نهايتهم الهلاك, ومجدهم في خزيهم, الذين يفتكرون في الأرضيات في3: 18, 19.
لعلك تقول: ولكني أعيش في العالم…
نعم, أنت تعيش في العالم, ولكن لا تجعل العالم يعيش فيك كما قال القديس بولس: والذين يستعملون هذا العالم, كأنهم لا يستعملون, لأن هيئة هذا العالم تزول 1كو 7:31… عش في العالم كغريب عنه كما عاش آباؤنا القديسون الذين: أقروا أنهم غرباء ونزلاء علي الأرض… يبتغون وطنا أفضل أي سماويا عب11: 13, 16. كان بعضهم يملكون المال, ولكن المال لم يكن يملكهم. لأن قلبهم كان كله لله.
ينبغي إذن أن تشعر بأن الله هو الوحيد الذي يملأ قلبك:
هو الذي يسكن في أعماقك, في أعماق الفكر والقلب. أما باقي ألوان المحبة فهي سطحية أو عابرة ويكون لها عمق, كلما تكون نابعة من محبة الله, وليست متعارضة معه. إذن تحب كل ما يزيدك محبة لله وكل ما يقربك إليه. وإن كنت تريد محبة الله حقا, كن حريصا علي كل المشاعر التي تدخل إلي قلبك, كرقيب عليها, تختبرها جيدا هل هي متفقة مع محبة الله أم لا… ولا تحاول أن تخدع نفسك أو تغير موازينك…
ناقش إذن مدي علاقتك بالماديات والجسدانيات…
فمحبتك لله تتناسب تناسبا عكسيا مع هذه الأمور جميعها. وتذكر أن خطية الإنسان الأول, بدأت حينما اشتهي شهوة أخري تتعارض مع محبة الله ووصيته.
ناقش أيضا في داخلك: ما هي المحبات الأخري التي تنافس محبة الله في قلبك؟ وكيف يمكنك التخلص منها؟ وهنا لابد أن يواجهنا سؤال مهم وهو:
هل نحارب المحبات الأخري, لتدخل محبة الله إلي قلوبنا؟ أم نبدأ بمحبة الله وهي التي تطرد المحبات الأخري؟
أتسأل بأيها تبدأ؟ أبدأ بأيها. وثق أن كلا من الطريقين يوصل إلي الآخر.
إن شعرت أن كل محبة تتعارض مع محبة الله, هي محبة زائلة وخاطئة وشريرة ولا تملأ قلبك, فحينئذ ستزهدها, وتملك محبة الله علي قلبك… وإن حدث أن بدأت نعمة الله معك, وانسكبت محبته في قلبك بالروح القدس رو 5:5, فستجد أن محبة الله قد طردت من قلبك كل محبة معارضة…
تذكر عبارة: تحب الله من كل قلبك, ومن كل نفسك, ومن كل قوتك تث 6:5.
وأسأل نفسك: هل حقا كل قلبي لله؟ أم أن جزءا آخر بعيد عنه؟ وضع في نفسك أنك لا تستطيع أن تجمع بين محبتين متعارضتين, لأنه كما قال الكتاب: أية خلطة للبر والإثم؟ وأية شركة للنور مع الظلمة؟! 2يو 6:14.
ليتك إذن تشعر ببطلان العالم وزواله وتفاهته… ونصيحتي لك أن تركز علي قراءة سفر الجامعة بعمق وفهم. وليكن الله معك…
أما باقي الوسائل التي تدفعك إلي محبة الله, فهي كثيرة, وتحتاج إلي عدة مقالات. فموعدنا إذن في المقالات المقبلة إن أحلت نعمة الرب وعشنا.