لم تعرف مصر اندفاع المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال لتأسيس المدارس إلا فى العقدين الماضيين بعد أن تحولت العملية التعليمية إلى صناعة مربحة جذبت الكثيرين المتطلعين إلى الكسب الوفير، وذلك سلاح ذو حدين، فقصور الدولة عن الوفاء باحتياجات المجتمع من المدارس يستلزم تشجيع القطاع الخاص على دخول ذلك المجال، لكن بعد أن كانت مساهمة القطاع الخاص والقطاع الأهلى فى مجال التعليم منصبة على الإرساليات الأجنبية والجمعيات الخيرية التى آمنت برسالة التربية والتعليم وقدمت لمصر أجيالاً من خيرة أبنائها وبناتها، تغير الحال وظهر جيل أصحاب المدارس الخاصة من رجال الأعمال الذين اعتبروا المدرسة مجرد مشروع ربحى. لا بأس أن يقدم خدمة تعليمية طالما يحقق الربح الكثير المأمول، أما إذا تعثر الربح فلا تهم الخدمة التعليمية ولا الرسالة التربوية على الإطلاق.
وطبعاً ما ساعد على خلق واستمرار ذلك المناخ المريض هو تردى العملية التعليمية من الأساس وانهيار الرسالة التربوية قبلها، فلم يتبق سوى سيل جارف من الأطفال الذين تنجبهم مصر كل عام يتسابقون ويتكالبون على حجز مكان فى أية مدرسة حتى ينضموا إلى السباق الرهيب فى مراحل التعليم والذى يؤدى بهم إلى عنق الزجاجة حيث مذبحة المرور من التعليم قبل الجامعى إلى التعليم الجامعى..وكلنا يعرف كيف أفرز هذا المناخ المريض معايير وقيما جديدة غريبة مؤداها أن الغاية تبرر الوسيلة، فالحصول على النجاح هو الغاية، أما الوسيلة فلم تعد التعلم فى المدرسة وحدها، لكن أضيف إليها الدروس الخصوصية والتلقين والحفظ ونماذج الامتحانات والغش وغير ذلك من الوسائل التى اغتالت براءة التعليم وشرف المدارس والمدرسين.
أمام زيادة الطلب على العرض دخل القطاع الخاص الاستثمارى مجال تأسيس المدارس ليملأ الفراغ، لكن لم تتوزع رؤوس الأموال على الخريطة الاجتماعية بمختلف طبقاتها حسب مستوى الدخل، إنما ظهرت شهية رؤوس الأموال الخاصة فى تركيزها على القادرين واستهدافها أبناء وبنات الأثرياء، وترك أبناء وبنات الطبقات الفقيرة والمتوسطة ليشغلوا المدارس الحكومية ومدارس الإرساليات والجمعيات الأهلية حيث الفصول مكدسة والخدمات متخلفة والأفنية والملاعب مجرد ذكرى حلت محلها المبانى…وفى المقابل ظهرت المدارس الاستثمارية فى صورة مبانى عصرية جذابة ومساحات رحبة وخدمات متسعة متنوعة وفصول تؤمها أعداد محدودة من التلاميذ وكفاءات ملفتة للمدرسين والإداريين المطعمين بأجانب،علاوة على نوعية الخدمات التى يطلق عليها على سبيل التندر”خدمات فندقية” ومنها الأوتوبيس المكيف للمدرسة، والكافيتريا الفندقية التى تقدم الوجبات المتميزة، والرحلات المدرسية مستوى الخمس نجوم والتى تصل فى بعض الأحيان إلى الرحلات خارج مصر فى إجازة نصف العام أو الإجازة الصيفية…كل ذلك وأكثر أصبح ممكنا ومتاحاً بفضل طبقة الأثرياء القادرة على دفع المقابل فى صورة مصروفات مدرسية هائلة أعطت أبناء وبنات هذه الطبقة الخدمة التعليمية المتميزة وتركت هامش ربح هائلاً أيضاً للمستثمر مكافأة له على دخوله ذلك المعترك، وشجعت الكثيرين مثله على ارتياد مجال تأسيس المدارس كمجال مضمون لتحقيق الثروات.
أعود لأقول إن كل ذلك لا بأس به إذا أفرز تطويراً حقيقياً فى مستوى التعليم، صحيح أن الدولة التى تسمح بذلك وتصدر له التراخيص لا تزال تتشدق بمجانية التعليم(!!) لكن من يتأمل بواقعية مشهد الخريطة التعليمية برمتها سوف يحسب للمدارس الاستثمارية فضل سحب شريحة ليست بالقليلة من الأطفال والتلاميذ بعيداً عن المدارس الحكومية ومدارس القطاع الأهلى لإتاحة الفرصة لأبناء الطبقات غير القادرة والطبقات المتوسطة للتعلم، وهذا شكل معترف به من أشكال إيصال الدعم لمستحقيه عن طريق جذب الأثرياء والقادرين إلى خدمة غير مدعومة…لكن سيظل المحك الحقيقى لتقييم ذلك هو مستوى الخدمة التعليمية غير المدعومة ومدى التزام رأس المال الخاص بتأمينها إذا تعارضت مع معايير الربح والخسارة، ولذلك قلت فى مستهل هذا المقال إننا أمام سلاح ذى حدين، فهناك المدارس الاستثمارية التى نجحت فى تحقيق توافق وتناغم بين رأس المال والإدارة المدرسية وسارت بثبات تؤدى رسالتها التعليمية وتحقق الربح العادل لرأس المال، بينما هناك المدارس الاستثمارية التى نشأ فيها صراع بين رأس المال والإدارة نتيجة تعارض المصالح بين تسلط وجشع رأس المال وبين سعى الإدارة لتأمين عملية تعليمية راقية، وفى ظل تفجر الصراع يستبيح رأس المال التدخل فى العملية التعليمية لحماية مصالحه بغض النظر عن صالح التعليم والتلاميذ.
فإذا كان تدخل رأس المال لضبط المسار مفهوما ومبرراً فى بعض المشروعات الإنتاجية أو الاقتصادية، سوف يظل تدخله فى المشروعات الخدمية أو التعليمية مدمراً، وينبغى على السلطات المسئولة عن التعليم فى الدولة ممثلة فى وزارة التربية والتعليم أن تراقب ما يحدث فى المدارس الخاصة والاستثمارية بدقة ويقظة للإسراع بالتدخل لكبح جماح رأس المال وضمان استقرار العملية التعليمية وحماية مصالح التلاميذ من العبث بها.
إن الواقع المعقد الذى سمح لرأس المال الخاص بتحقيق أرباح هائلة من جراء الاستثمار فى التعليم يجب أن تكون له مخالب تحمى التعليم من انفلات وجموح رأس المال…مخالب تقطع الطريق على من يدخل العملية التعليمية مردداً مقولة:”إحنا فى مدارس القطاع الخاص بنحسبها بالراس…كل راس بتجيب على الأقل ثلاثين ألف جنيه فى السنة”!!!