هذه ليست المرة الأولي التي أختلف فيها مع ميدان التحرير,فمنذ اندلاع الثورة ونجاحها في إسقاط نظام مبارك كنت أرقبها بمزيج من الإعجاب والإشفاق,لأن الأمر لم يكن يخلو من مظاهر للاندفاع الثوري العاطفي الذي يعوزه العقل والتروي, ومرت بي بعض المواقف التي شعرت فيها أن ثوار التحرير يتمادون في تعنتهم ويتصورون أنهم أصبحوا الآمر الناهي في كل مايتعلق بمصر وبمسار التحول الديموقراطي الذي نجتازه,بل يتكلمون ويتحكمون وكأنهم الوحيدون الذين امتلكوا الحكمة والوحيدون الذين لهم الحق في التعبير عن الشعب المصري في جميع أنحاء مصر…بل مرت بعض المواقف التي انتابني فيها قلق إزاء تقاعس السلطة -عسكرية-ومدنية-عن اتخاذ مواقف صارمة أمام ضغوط ثوار التحرير عندما أصروا علي استبعاد جميع القيادات الأمنية التي تنتمي إلي النظام السابق, الأمر الذي أعادنا خطوات كثيرة إلي الوراء في مسار إعادة تشكيل المنظومة الأمنية, وأيضا عندما تدخلوا بشكل غريب في مسار محاكمات رموز النظام السابق محاولين فرض سيناريوهات بعينها للمحاكمات وللأحكام!!!…رأيت وقتها أن مايحدث هو تدليل للثوار وإفساد للثورة.
اليوم أجدني في ذات الموقف,أرقب ماحدث ويحدث منذ أسبوعين في ميدان التحرير وأفشل في التعاطف معه أو تفهمه وأراه اختطافا مخيفا للثورة يفتقر إلي رؤي عاقلة تحسب المخاطرات ونتائجها ويغامر بأمن وسلام مصر في هذه المرحلة الدقيقة التي نمر بها والتي تتطلب تكاتفا وطنيا حكيما يدعم سلام واستقرار العملية الانتخابية التي نجتازها كأولي مراحل مسار التحول الديموقراطي…وإليكم بعض ما يثير قلقي علي الثورة واختلافي مع ميدان التحرير:
00شهد ميدان التحرير سلسلة من التظاهرات والاعتصامات بعد نجاح الثورة جعلت منه رمزا للقلب النابض لها وقبلة للثوار كلما أرادوا التعبير عن مطالب أو الاحتجاج علي واقع,وكان كل ذلك مقررا في ظل انعدام الرؤية لمسار محدد للتحول الديموقراطي يقترن بجداول زمنية واضحة…أما بعد وضوح الرؤية واقترابنا جدا من بدء الانتخابات البرلمانية حتي أن سائر الكتل السياسية دخلت مرحلة العد التنازلي للانتخابات, ماذا كان الداعي للمغامرة بإفساد كل ذلك ؟,وما الذريعة لعرقلة ماتم إنجازه من خطوات في هذا المسار؟
00بدأ الحشد لما يوصف بمليونية المطلب الواحد يوم الجمعة18نوفمبر الماضي للاعتراض علي وثيقة السلمي للمبادئ الدستورية وتوأمها وثيقة معايير اختيار الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور,وباستثناء الاعتراض علي المادتين(9),(10) الخاصتين بالقوات المسلحة واللتين اتفقت جميع القوي السياسية والوطنية علي رفضهما,مايزال المهمومون بأمر مصر ومستقبلها لايعرفون ماوجه الاعتراض علي المبادئ الدستورية ومعايير اختيار الجمعية التأسيسية؟…الشعارات الكبيرة الزاعقة تستمر تتردد وتحذر من أي مصادرة لإرادة الشعب وحقه في كتابة الدستور,لكن لم يكلف أحد نفسه مشقة مناقشة فحوي المبادئ الدستورية بطريقة موضوعية ليقول لنا أين تكمن فيها مصادرة إرادة الشعب…أيضا الشعارات الكبيرة الزاعقة تستمر تنطلق احتجاجا علي فرض الوصاية علي الشعب وحقه في انتخاب الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور, لكن لم يكلف أحد نفسه مشقة فحص وتحليل المعايير المعلنة في هذا الخصوص والتي تضمن التمثيل الحقيقي الكامل والمتوازن لسائر أطياف الشعب دون استبعاد أو إقصاء.
00استمرار ثوار التحرير في الميدان عقب جمعة الإنذار الأخير التي تنفس الكثيرون الصعداء أنها انتهت سلمية دون عنف أو تصادمات,لكن جاء السبت الدامي في أعقابها حيث أصر المستمرون في الميدان علي رفع المزيد من الطلبات التي سواء اتفقنا معها أو اختلفنا عليها تم التعبير عنها بأسلوب غريب من التحرش بقوات الأمن والإصرار علي الزحف علي مقر وزارة الداخلية,الأمر الذي أدي إلي أبشع المواجهات بين الثوار والأمن منذ قيام الثورة وأفضي إلي تجاوزات رهيبة في أساليب قمع المتظاهرين انطوت علي استخدام مفرط وغير مبرر للقوة ونتج عنه أعلي معدل للشهداء والمصابين في تاريخ الثورة…وأمام تلك المشاهد الدامية المفزعة وقفت أتساءل:لماذا الإصرار علي التصادم والعنف؟ولماذا العناد في السعي لاقتحام وزارة الداخلية؟ماعلاقة ذلك بالمطالب التي رفعها المتظاهرون؟ولماذا دائما تترك الأمور تنفلت بلا تعقل ثم يأتي الحديث بعد ذلك عن المندسين والمهووسين والبلطجية ونحن نحصد القتلي والجرحي؟!!
00أدت مأساة التحرير وشارع محمد محمود إلي رفع سقف المطالب من جانب الثوار, بعضها مفهوم وحتمي مثل إيقاف العنف وتقديم المسئولين عنه للمحاكمة وقبول استقالة وزارة الدكتور عصام شرف, بينما البعض الآخر مندفع لايقدر العواقب مثل رحيل المجلس الأعلي للقوات المسلحة وتسليم السلطة لمجلس مدني يختاره ميدان التحرير(!!!), وتأجيل الانتخابات البرلمانية(!!!)…وتعجبت جدا كيف غاب عن الحكماء في الميدان أن هذين المطلبين هما بمثابة دعوة مجنونة للفوضي والخراب والصراعات التي ترتقي إلي مرتبة الحرب الأهلية…ولحسن الحظ أن تعامل المجلس الأعلي للقوات المسلحة مع تلك التداعيات الخطيرة كان هادئا حكيما وجاءت قراراته بالاعتذار عن العنف ومساءلة المسئولين عن ذلك وبالتغيير الوزاري وبالالتزام بعدم الرحيل وبإجراء الانتخابات في مواعيدها المقررة وبتقديم موعد تسلم السلطة إلي2012/7/1 بمثابة صمام الأمان الذي حفظ الاستقرار لمصر.
00لم يقتنع ثوار التحرير بكل ذلك بل ما يزالون معتصمين بالميدان رافضين لكل شئ,مصرين علي رحيل العسكريين,رافضين وزارة الدكتور كمال الجنزوري التي تنعقد عليها الآمال في انتشال مصر من الكارثة الاقتصادية التي تحيق بها,ومشككين في العملية الانتخابية الجارية,حتي أنهم قاموا بحصار مقر رئاسة مجلس الوزراء ليمنعوا وصول الدكتور كمال الجنزوري إليه!!!
00قبل أن أنتهي من عرض أسباب قلقي علي الثورة واختلافي مع ميدان التحرير أسجل بكلقرف واشمئزاز استنكاري لتكرار مسلسل تحرش عناصر من شباب الميدان بالفتيات والصحفيات والمترددات علي الميدان سواء للمشاركة في الثورة أو لأداء الواجب المهني في التغطية الإعلامية والسياسية…إن ما تتناوله الأخبار ويتناوله القادمون من الميدان في هذا الخصوص لهو سبة في جبين الثورة وسيذكره تاريخها علي أنه علامة مخزية علي غياب الشهامة والرجولة والنخوة عن الميدان…إن جرائم التحرش والاغتصاب للأسف تحدث وتستمر تحدث في المجتمع, لكن بئس الثورة وميدان التحرير إذا كانت تلك الجرائم تحدث عيانا جهارا والثوار صامتون.