قبل أن نتكلم عن الأمومة يجب أن نذكر أن المعمودية هي أمنا, من هنا تأتي قيمة المعمودية وأهميتها للخلاص, لأنها مدخلنا إلي ملكوت السموات. وملكوت السموات بمعناه الأرضي هو الكنيسة, ومعناه السماوي هو الملكوت النهائي الذي سيحظي به الأبرار بعد يوم الحساب. لايجسر أحد أن يدخل ملكوت السموات علي الأرض وهو الكنيسة التي هي مملكة المسيح إلا من ولد من الماء والروح, ونحن بنزولنا إلي جرن المعمودية واختفائنا في الماء, ندخل إلي عالم آخر, ندخل إلي ملكوت السموات علي الأرض إلي الكنيسة, فيها نلبس الحلة الأولي التي لبسها الابن الضال. وهي أول نعمة سماوية ينالها المؤمن في ملكوت المسيح, وهي بعينها حلة العرس التي بها ندخل إلي العرس السماوي, ومن دونها نطرد من هذا العرس السماوي, هذه المعمودية التي تجمعنا هي أمنا, هي الأم ونحن أبناؤها ولهذا نسمي بأبناء المعمودية, والكنيسة أيضا في مفهومها كعروس المسيح, التي خطبت له وصارت له امرأة الحمل التي تكلم عنها سفر الرؤيا, هذه الكنيسة امرأة الحمل هي ولدتنا فصرنا أبناءها فهي أمنا ونحن أولادها.
العذراء الأم:
وعلي الصليب وعند أقدام الصليب وقفت العروس الطاهرة فخر جنسنا العذراء مريم, وأوصاها المسيح بنا في شخص يوحنا وقال: هوذا ابنك, وقال ليوحنا: هذه أمك, كنا في الصليب مع يوحنا حين أوصي المسيح أمه بنا أن تكون أما لنا, وأوصانا في شخص يوحنا أن نتخذها لنا أما ونحن لها بنون. هذه أمنا التي ولدت لنا الابن البكر يسوع المسيح, لأننا نحن الذين منها بعد ولادته هو منها فأصبح هو الابن البكر وأصبحنا نحن الآخرون بعد البكر, فأمنا هي المعمودية وأمنا هي الكنيسة, وأمنا هي العذراء, ولنا أب هو أبونا السماوي الذي ولدنا في المعمودية,وأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه هذا الذي ندعوه يا أبانا. أي شرف أعظم وأي كرامة للتراب أن يقول لله يا أبانا. لأنه بفضل النعمة والمحبة والرحمة والصلاح تفضل فتبنانا. لأننا نحن لسنا أبناء له, بالطبيعة نحن أبناء الغضب ولكننا بفضل النعمة تبنانا وأنعم علينا بالبنوة فصرنا له أبناء, ونحن جميعا إخوة لنا أب واحد ولنا أم واحدة.
المسيح وهو الإله المتجسد الكائن منذ الأزل, الذي تفضل في الزمان واتخذ له جسدا مطابقا لجسدنا من أمنا الطاهرة البتول النقية العذراء, التي ستظل دائما العذراء بالألف واللام, فخر البتولية مجد العذراوية التي نالت كرامة وشرف الأمومة, رغم أنها لم تشأ أن تصير أما لأولاد من البشر كلفا بالعفاف وحبا للطهارة التامة. أراد الله أيضا أن يكافئها وأن يشرفها بالأمومة حتي لا تحرم منها, بمن هو أصل الوجود وخالق البشرية وقد كان, صارت العذراء مريم أما للإله. لا بمعني أنها أصل للاهوت حاشا, فاللاهوت أسبق من مريم لأنه كائن منذ الأزل, لقد أكرمها كأم حينما أرضعته من لبنها وحملته علي ركبتيها وكانت ركبتاها له عرشا. كما كانت بطنها له سماء ثانية, وربته كطفل وحملته علي يديها وكانت كالسحابة الخفيفة السريعة التي رآها إشعياء وأنبأ عنها في الإصحاح التاسع عشر من سفرههوذا الرب راكب علي سحابة سريعة وقادم إلي مصر, فترجف أوثان مصر من وجهه ويذوب قلب مصر داخلها وتحطمت الأوثان في مصر وذاب قلب مصر هلعا من روعة وبهجة وجلال هذا الآتي علي سحابة, ولم تكن السحابة السريعة إلا مريم, وكانت سريعة خفيفة رمزا إلي رقتها ووداعتها, لم تكن سحابة كالغمام الأسود الذي يخفي الضوء, ولكنها كانت سحابة تسمح للضوء أن ينفذ منها, سحابة منيرة طاهرة بنصاعتها ونقاوتها وكمال سيرتها, وجاءت إلي مصر واحتملت في سبيل وليدها أقسي ما تتحمله أم مطرودة هاربة من جواسيس هيرودس في مطاردتهم لها, وكم لقيت في مصر من مضايقات ومتاعب في بعض الأحيان, حيث كان الشيطان يثير بعض الناس ضدها ليطردوها وليمنعوا عنها ما تطلب من طعام أو شراب لوليدها, عاشت في خوف وفي هلع علي وليدها الحبيب, وهي طفلة لا تكاد تتعدي الرابعة عشرة من عمرها, ومع ذلك كان لها حكمة وكان لها صمت وكان لها سكون تفتقر إليه العجائز الحكيمات, وهنا نذكر حينما رجعت إلي الناصرة وعندما عادت من الهيكل ولم تجده, فكانت في هلع وخوف وفزع وعادت إلي الهيكل تفتش عنه فوجدته في الهيكل مع المعلمين يسمعهم ويسألهم, وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه ومن أجوبته, وقالت مريم العذراء برقتها يا ابني أين كنت إننا كنا نطلبك معذبين, وقال المسيح برقة للأم الحبيبةألا تعلمان أنه ينبغي لي أن أكون فيما لأبي وهنا يقول الإنجيلورجع معهما يسوع وكان خاضعا لهما يالشرفك يا مريم, خضع لك الكلمة المتجسد, لعل كل ولد يتعلم أن يكرم أمه وأن يحترمها ويهابها ويحبها, فليس ولدا في الدنيا أعظم شأنا من المسيح حتي يضع نفسه خاضعا لأمه.
محبة الأم ووفاء الابن:
آه لو عرف شبابنا وأولادنا بحكمة العقل عمل الأم ومحبة الأم التي ليس لها في الوجود نظير, أي محبة تعظم محبة الأم في الدنيا؟! ومن يحبك أكثر من أمك المحبة المخلصة التي بلا غرض وبلا هدف, المحبة التي بلا مطامع, المحبة التي بلا مقابل, المحبة التي بلا أجر غير الأم؟, هذه المحبة لا تعلوها محبة إلا محبة الله, وحتي الله نفسه حينما أراد أن يصف محبته لنا, لم يجد محبة صافية نقية خالصة يمكن أن يشبه بها حبه إلا محبة الأم. إن بعض الناس الذين فقدوا أمهاتهم بالوجود يحيطون نفوسهم بالندم لأنهم لم يكافئوا أمهاتهم بما يليق, يفتشون عنها فلا يجدونها ولا يجدون عنها عوضا ولابديلا. والذين لهم أمهات يجب أن يحرصوا علي محبتهم لأمهاتهم, ويجب أن يهتموا ويضعوا في بؤرة الشعور قداسة هذه المحبة, وأن يقدموا ما استطاعوا لهذه الأم شيئا من الوفاء, وما أسهل الوفاء للأم لأنها لا تطلب من ابنها شيئا, وكم من أم إذا قدم لها ابنها شيئا تتألم, لأنها تشفق عليه أن تكون الهدية التي يقدمها لها فوق مقدوره, ففيما هي فرحة ومسرورة في نفس الوقت تكون أحشاؤها ممزقة حينما تشعر أن ابنها قد أرهق نفسه, لأنها تحب بلا مقابل, انظر الأم لو كان ابنها مريضا, تحمله 24ساعة, تعيش له كالممرضة تعد نبضات ابنها وضربات قلبه, وتسير في البيت شعثاء الرأس حافية القدمين, لا تلتفت إلي الطعام ولا إلي الشراب, مشغولة بابنها فإذا ابتسم ابتسامة ضاع كل تعبها, يالهذه المحبة التي ليست لها نظير, يكفي الأم وفاء أن تجد كلمة تقدير تغنيها عن كل شئ, كلمة تشعرها بأنك تقدر معروفها وتقدر جزاءها, تكلمها برقة وبحنان وبلطف وباحترام هذا هو كل ما تطلبه الأم ولا تطلب أكثر من هذا, ولكن أين أولادنا اليوم, كانت الأم في أجيال سابقة موضع احترام وإجلال وتقديس, عندما تطلب أمه شيئا يطيع طاعة عمياء, مادامت الأم قد قالت يخضع الابن مشاعره وقلبه لكلمة الأم, اليوم مع التربية الحديثة ومع الحرية وثورة الجيل الحديث علي الأجيال القديمة, أبوه وأمه أصبحا موضة قديمة, وأفكارهما أصبحت عتيقة ورجعية, ماذا يفهم أبوه وماذا تفهم أمه, أمام الشهادات التي أخذها, لهذا رأت الحكومة ورأي المسئولون ورأي المفكرون ورأي رجال الإصلاح, أن الحاجة بعد إلي تخصيص يوم يتحدث فيه الناس عن فضائل الأم. وعن خدمات الأم, ومركز الأم, وأهمية الأم, لعل هذا النوع من الكلام يرد الأولاد إلي صوابهم ويعرفهم أنهم فيما ظنوا أنهم علماء وحكماء وفهماء وأحرار وأصحاب عقليات متفتحة, داسوا بأقدامهم أمهاتهم, هذا هو المعني وهذه هي الضرورة الاجتماعية إلي إقامة مثل هذا اليوم, ليكون فرصة ليتدارك فيها الناس دور الأم وأهمية الأم, لأن الشباب والأطفال نسوا هذا الدرس فاعتادوا إلي تذكيرهم من جديد, ولو كنا كما كان أباؤنا في الجيل الماضي لما كنا في حاجة إلي يوم كهذا, لأن في كل يوم يعرف الطفل ويعرف الشاب قدر أمه وجلالها وأهميتها, إنما تخصيص هذا العيد يحمل اتهاما لشبابنا ويحمل اتهاما لجيلنا, معناه أن جيلنا قد نسي وأنه في حاجة إلي التذكير وإلي الوعظ وإلي التعليم. ليعرف الإنسان قدر أمه, وأن يقدم لها كل أنواع الوفاء, الكلمة الرقيقة والاحترام والطاعة والخضوع, أيضا أن نترفق بشيخوختها وشيخوخة الوالد, الرسول بولس يقول:علي الأولاد أن يكرموا آباءهم الإكرام بالمعني المادي, أي لا يترك أبوه وأمه عريانين ومحتاجين إلي الطعام, نسمع بين وقت وآخر أنه قد اضطرت الأم بأن ترفع قضية علي ابنها لتطالبه بنفقتها, ياللجحود أهذه هي الأم التي بذلت قطرات دمها وسكبت حياتها سكيبا, كم من أم مات رجلها وهي في ريعان الشباب, فكدت وجاهدت لكي تربي ابنها, ثم يأتي الابن في كبرها يتمرد عليها, لذلك قال الكتاب:من سب أب أو أم يقتل قتلا جريمة لا نظير لهاالعين المستهزئة بأبيها والمحتقرة أمها تقودها غربان الوادي هذا قضاء الله وحكم الله علي الولد العاق الذي لايعرف قدر أمه, والذي لا يعرف قدر أبيه, خاصة في شيخوختهما وفي كبرهما وفي تعبهما, أين الوفاء؟ واجبنا نحو الأسرة المسيحية أن نصونها وأن نحفظ لها قداستها وكرامتها, يا رجل لا تدنس رباط الزوجية ولا تدخل بامرأة في حرام إلي الرابطة المقدسة التي ربطتك بزوجتك, لاتدنس نفسك, إن جسدك هيكل لله ومن يفسد هيكل الله يفسده الله, نصون الأسرة ونحميها ونحرسها ونحفظ لها كرامتها, أيها الأب أيتها الأم لا تغيظوا أولادكم بل ربوهم بتأديب الرب وإنذاره. الأب والأم اللذان يظنان أن واجبهما فقط أن يلبسوا أولادهم ويأكلوهم أو حتي يعلموهم ولو أن التعليم مهم جدا, وإن كنا كأقباط درجنا علي المثل القائلربوهم ولا تورثوهم وهذه مفخرة لشعبنا القبطي نذكر بالفخر البواب أو الفراش أو القرابني الذي يعلم ابنه التعليم العالي, ويتخرجون أطباء ومهندسين وقضاة ومستشارين وأساتذة جامعات, لهم الفخر أن آباءهم فراشون أو قرابنيون أو عاملون, ولكن المفخرة الأكثر التربية الدينية والتربية الروحية, حتي يعيش الأولاد في طاعة الله, ولايكون الوالدان أول من يحصد تمرد هؤلاء الأولاد, أحضروهم إلي مدارس التربية الكنسية وإلي الكنيسة, لا تغضبوا عليهم وتقيموا حربا علي أولادكم زيادة من الحرص منكم علي مذاكرتهم, أحضروهم إلي الربدعوا الأولاد يأتون إلي ولا تمنعوهم ولا تمنعوهم عن المسيح وهو يعرف أن يربيهم تربية عظيمة وتربية مباركة, وأنتم ستحصدون ثمارها, أحضروا الأولاد إلي الكنيسة حتي لو كان رضعا علي كتف أمه لا يفهم, تدخل الكنيسة بطقوسها وبروعتها ومناظرها وبألحانها وبرائحة البخور إلي أعصاب الطفل وإلي مفاصله, تدخل إلي كل جزء من أجزائه, تدخل مع الدم وتسري في شرايينه وتنمو معه في كبره, ربي ولدك في طريقه فمتي شاخ لايحيد عنه, إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا تلين, جيد للمرء أن يحمل النير منذ صباه.