ليس عجبا أن تجتمع القلوب شرقا وغربا علي حب هذا الشاعر الهندي العظيم “رابندرانات طاغور” شاعر الحب والسلام الذي سخر قلمه وريشته لخدمة الإنسان والدفاع.عنه غير مفرق في تقديره للإنسان بين الجنس أو لون أو العقيدة، فقد كان الإنسان عنده هو الإنسان في أي صورة ركب وفي أي أرض نشا وكما يقول عنه الناقد الراحل الكبير الدكتور محمد عياد، إنه كان يرى الإنسان قدساً، لأنه الصورة التي تتجلى فيها قدرة القادر وعظمة الخالق علي الأرض –كان يحب الإنسان-أي إنسان- ويقدس حقه ويجهد في سبيله. لم يفقد قط –حتى في أحلك ساعات حياته- إيمانه بالإنسان، ولم يكف قط عن السعي الدائب في سبيل تحقيق سعادة الإنسان.
نشأة الأديب والحركة الفكرية في الهند
مر الأدب الهندي بعهدين مختلفين: يرجع العهد الأول منهما إلى العصور القديمة، ويتدرج جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن حتى القرن الثامن عشر، وكان أدب ذلك العهد أو تلك العهود الطويلة تقليدي لا يتجاوز الشعر والأناشيد، إذ أن فن النثر لم يكن قد ظهر، ولم تكن قد ظهرت أيضا فنون المسرحية والقصة على النحو الذي نعرفه الآن. وظل الشعراء في هذه الأجيال المتتابعة منساقين بتعليمهم نحو الطبيعة الفطرية، متأثرين بعاداتهم وتقاليدهم القديمة، وكل ما يطرأ على الشعر من تقدم في ذلك العهد لا يتجاوز الأسلوب، ومحاكاة الحديث للقديم والسير علي منواله، إذا استثنينا ومضات كانت تظهر من آونة لأخرى لدي بعض الموهوبين، فتضئ الطريق لرواد الشعر وتكشف لهم عن معالم، ولكن هذه الومضات لا تلبث أن تختفي ويتلوها ظلام يتكشف عن ظهره شاعر من آن لآخر بأسلوب جديد.
أما العهد الثاني:فهو عهد اتصال الهند بالأمم الغربية واستقائها من معين أدب الغرب، وقد بدأ تأثر الهند بهذه الروح الحديثة بوفود بعض من البعثات الغربية إليها، ومن الرواد الأوائل، الذين قدموا إلى الهند “وليم كاري” عام1799 حيث استقر في “سارمبور” وظل ينشر الثقافة والعلوم علي اختلاف أنواعها زهاء أربعين عاماً، فقوبلت تعاليمه بالترحاب من رجال الأدب وقادة الفكر، وساعده على أداء هذه الرسالة بعض الهنود الموهوبين، وترتب على ذلك ظهور شخصيات من البنغال أحرزت البلاد على أيديهم نجاحاً مرموقاً في عالم الأدب والسياسة، ومن أبرز هذه الشخصيات “روما هن روي” الذي ولد عام1774 وظهرت بوادر عبقريته في وقت مبكر، وقد درس السنسكريتية، والفارسية، والعربية وأضاف إليها الإنجليزية، والإغريقية، وكانت له صلات وطيدة بالجاليات الأوربية.
هاجم “روي” جوانب القصور في المجتمع وعالج الكثير من أحواله، وكان لتعاليمه أثر كبير في أوجه النشاط المختلفة في الهند، دينية كانت أو سياسية أو أدبية أو اجتماعية، وكان أول من كتب البنغالية الصحيحة في نثره.
يقول “رابندرانات طاغور”: “إن النثر الذي كان يكتبه “روي” وهو يتناول المسائل العويصة بقلمه، كان يتألق بالجمال، علي الرغم من عدم ظهور الأساليب الفنية للنثر في عهده”، وقد ازدهرت الحياة الأدبية في عهد “روي”، وبعد مماته ظهر “رجور كانات طاغور” جد الشاعر “رابندرانات طاغور”، فكان لشخصيته أثرها الفعال في حياة الهند.
كان هذا الرجل من سراة الهند، ومن الرجال البارزين فيها، وعند زيارته إنجلترا قوبل بحفاوة بالغة، وكانوا يدعونه “برنس دوار كانات طاغور” وكان موضع إعجاب الكثيرين وهو من رواد الإصلاح البارزين.
أما عن الحركة الفكرية المتحررة في الجامعة الهندية، فقد أنشأها “روما همدروي” في كلكتا مركز الحياة الفكرية، وقد تزعمها “لويس ورزيو” الذي التحق بهيئة التدريس بالجامعة الهندية، فكانت له السيطرة التامة علي طلابها الذين لم يدخروا وسعاً في تشجيعه واعتناق آرائه.
وقد هاجمه الكثيرون لتطرفه الشديد في نشر دعوته، ولم تراع هذه الحركة روح القومية الهندية، وكان طبيعياً أن تقابل بحركة أخرى كانت تترصد لها وتعد أخطائها وإن تحكمت في الأدب والصحافة وأظهرت نشاطاً عظيماً في الحياة الاجتماعية والأدبية، وتصدر لهذا التيار المزعج في الهند “رابندرانات طاغور” والد الشاعر ويقول: “كان يتعين علي إيقاف هذه الحركة والتصدي لها، فكنت أجوب أنحاء المدينة في عربتي من الصباح إلى المساء واتصل بذوي الرأي والنفوذ من رجال كلكتا وأوعز إليهم بمحاربة هذه الحركة وأدعوهم إلى أن يمنعوا أبناءهم من الالتحاق بمدارس البعثات التبشيرية، وأن يؤسسوا مدارس خاصة بهم يتعلمون فيها، فألهبت نفوسهم تلك الدعوة.
وقد سعي أتباع “ورزيو” ومن جاء بعدهم إلى استمالة الحركة القومية، والعمل علي تقريب وجهات النظر فيما بينهم وبين القوميين، وانتشر في البلاد نشاط فكري متأجج وروح حماسية مشتعلة ولد في إبان عنفوانها “رابندرانات طاغور” فأنشأ الحركة “البرهمية” وعمل بجد لا يعرف الملل، وكان يقاوم الوثنية، وقد نمت علاقاته برجال الهند على مر السنين ثم عاد إلى حياة العزلة والتأمل وأطلق اسم “المهارشي” أي الريشي العظيم، والريشي هم طائفة حكماء الهند القدماء وكان من الطبيعي أن تؤثر عقيدته علي أبنائه وفى مقدمتهم “رابندرانات” الذي اقتدى بوالده في المحافظة علي القومية الهندية وكان اسم “طاغور” ومعناه “السيد العظيم”، يطلق عليهم من طبقات الهند، وكان النصف الأخير منه يعد بحق عند النهضة البنجالية، التي تمتد جذورها إلى “روما هن روي”… وظهر “ميتشيل رات” بملامحه التي كانت بمثابة جسر إلى المسرحية العشرية قبل ظهور النثر الفني، وكتب قصة طويلة سماها “المرأة الأسيرة” وكانوا يسمونه في الهند “مكون اللغة البنغالية” كما كانوا يدعونه ” بابن شندرا” “بيرون الهند”.
وقد ظهر “طاغور” متأثراً بهذه الحركات وهضمها جميعاًـ زاد عليها من ثقافته وموهبته الفكرية، مما جعله ينافس من تقدموه في عالم الأدب والفكر، وقد قاوم الرجعية مقاومة شديدة مع تمسكه بقومية بلاده.
“طاغور” الشاعر والإنسان
ولد “طاغور” في السابع من شهر مايو عام1861، بمدينة كلكتا في أسرة موسرة ذائعة ذات تاريخ مجيد وجذور عميقة في عالم الثقافة ودنيا الأدب والسياسة، كما ذكرنا، فكان جده راعياً للفنون والآداب في عصره، وكان أبوه من أعظم المصلحين الاجتماعيين، وكان من أسرته النابغون في الرسم والموسيقي والأدب، هذا التراث الثقافي الوفير الغناء الذي أخذه أبوه عن آبائه وأجداده مضافاً إلى مواهبه الفريدة قد خلق منه عبقرياً فذاً متعدد الجوانب مكتمل النبوغ، وهيأ له التحليق في كل ميدان إلي القمة.كان “رابندرانات طاغور” أصغر أبناء أبيه السبعة، وكان أبوه دائم الترحال، أما أمه فكانت مريضة بداء الرئة، فلم ينعم في نضارة سنه بما ينعم به هؤلاء الصغار من التدليل، ولعل الطابع الذي ميز كثيراً من شعره فيما بعد -طابع الظمأ الذي لا يرتوي أبداً، والحنين الذي لا يهدأ- أن يكون راجعاً في بعض أسبابه إلى حرمانه من مظاهر الحنان الأموي الطبيعي في سنواته الأولي.
وقد حدثنا طاغور في ذكرياته عن تلك الأيام، عندما كان الخادم الذي يكلف رعايته يفضل أن يخفف العبء عن نفسه بأن يرسم للطفل دائرة من الطباشير على أرض الحديقة لا يسمح له أن يتجاوزها، ولكنه عرف في تلك الأيام صديقاً ألفى بنفسه بين أحضانه وظل وفياً له حتى آخر العمر، إنها الطبيعة التي ظلت بسحرها وجمالها تبعث فيه شوقاً دائماً إلى الفناء، فكتب إلى أحد أصدقائه يصف كيف كان يجلس أمام النافذة يوماً بعد يوم، ويرقب السماء والسحب تظهر فيها واحدة بعد واحدة، فيشعر أنه محوط بصداقة حميمة لا يعرف كيف يسميها، من ذلك ما كتبه فى ذكرياته: “في أصباح الخريف كنت أهرع إلى الحديقة لحظة استيقاظي من النوم، فأشعر أن رائحة الأوراق والأعشاب المخضلة بالندي تحتضني، وأن الفجر يمد إلى وجهه حنوناً غضاً في أشعة الشمس الباكرة ليحيني تحت كساء أوراق النخيل المهتزة، كانت الطبيعة تطبق يديها وتسأل ضاحكة كل يوم: ماذا في باطني؟ ولم يكن يبدو ثمة مستحيل!!”
ثم جاءت أيام المدرسة بعذابها، فقد كانت القسوة هي أساس التعليم في ذلك العهد، حيث يقف ساعات حر الشمس الطوال إن أهمل في حفظ درسه، ويصف طاغور شعوره نحو المدرسة فيقول: “لقد فصلتني فصلاً تاماً عن كل ما كان يملأ حياتي، وكنت أشعر بالشقاء هناك كأنني أرنب محبوس في معهد الأبحاث البيولوجية”. وفي هذا الجو الصارم الخالي من الفن والحنان ورفاهة الحس قوي حنينه إلى المرأة.
وفى سن الثانية عشرة أتيحت لطاغور الصبي تجربة عظيمة الأثر في حياته، عندما اصطحبه والده في رحلة طويلة بدأها بزيارة “شانتينيكيتان” دار السلام التي أقامها الأب في مكان منعزل قرب مدينة “بوليور” بالقرب من كلكتا، زرع هناك الأب حديقة وأقام وسطها منزلاً ومعبداً يذكر فيه الخالق الفرد الصمد، ويأوي إليها من حين إلى حين للتأمل والقراءة الفلسفية، وكانت دار السلام مفتوحة أيضا لكل من أراد أن يبتعد عن اضطراب الحياة ليقضي فترة من الزمن في تفكير ديني هادئ. هناك عرف طاغور أول أيامه السعيدة بين أحضان الطبيعة وانطلاق الفكر.
بعدها اصطحبه أبوه إلى “أمريتار” مدينة السيخ المقدسة وهم فرقة من الهنود مزجوا الهندوكية بالإسلام واعتنقوا عقيدة التوحيد، هناك كان طاغور يجلس مع أبيه في معبد السيخ وينشد أناشيدهم الدينية، وامتدت رحلتهما خلال أودية رائعة الجمال حتى أقاما في كوخ على جبال الهمالايا عدة أشهر حيث علمه أبوه حب الحقيقة والاستقلال في الحياة ، وشرح له مبادئ الفلك وأدب البنغال وتاريخها.
—
س.س
٣١ يوليو ٢٠١١