أخيرا, وبعد انتظار طويل جدا زاد عن النصف قرن, قدر لمجموعة مقالات كتبها الأستاذ توفيق حنا, أن تجمع وتنشر في كتاب, لتكون باكورة إصدارات دار النشر الجديدة ##نون##
وخرج الكتاب بعنوان بليغ: ## الصمت والكلمات##, وبغلاف جميل من أعمال الفنان حامد عويس, وبمقدمة رائعة كتبها الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي.
والأستاذ توفيق حنا من الشخصيات المتميزة التي- للأسف – متوارية, لايعرفها إلا الخاصة, بعد أن أصبحت الشهرة- في أغلب الأحوال- من نصيب الأقزام الواصلين عن طريق المال والشللية, واختفي أصحاب المواهب الحقيقية والقيم المثالية تحت أكوام الزيف وادعاء العلم والثقافة.
توفيق حنا هو أساسا معلم من النوعية المنقرضة من المعلمين. النوعية التي تركت بصماتها الرائعة القوية علي الأجيال. وهو كاتب وناقد وأستاذ مثقف متعدد الاهتمامات. وفوق كل هذا, فهو إنسان يتحلي بصفات نادرة. رغم هجرته إلي الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة, فهو مازال يعيش في مصر بكل جوارحه. أخذ علي عاتقه, في كل مراحل حياته, أن يأخذ بيد الصغير إلي أن يكبر, يساند كل من يري فيه موهبة, ويشجع كل عمل جيد.
وبرغم تقدمه في العمر بحساب السنوات, فهو يذهلك بعقله الثاقب, وذاكرته المدهشة, واطلاعه الواسع علي الأحداث الجارية, وفي مقدمة هذا كله بآرائه التقدمية, وانفتاحه علي العصر, وتطور أفكاره لتواكب المتغيرات العالمية, مع فهم للطبيعة البشرية وتسامح مع أخطاء البشر. هذا مع رقة وتواضع ومجاملة وحساسية بالغة في تعامله مع جميع الناس.
وفي هذا الكتاب يتحدث توفيق حنا عن مبدعين جسدوا عبقرية مصر في مختلف المجالات; من أمثال سلامة موسي, العقاد, طه حسين, توفيق الحكيم, يحيي حقي, يوسف إدريس, إدوار الخراط, صلاح جاهين, غالي شكري, بهاء طاهر, جمال الغيطاني, عبد الرحمن الأبنودي, عبد الحميد يونس, روز اليوسف, أم كلثوم, زكريا أحمد وسيد درويش. وطبعا احتل نجيب محفوظ مساحة كبيرة من الكتاب, تتناسب مع مكانته المتميزة لدي المؤلف.
ويمتعنا توفيق حنا بذكرياته الحلوة مع أصدقائه من ضمن هذه النخبة, ويعرفنا بأصول تعبيرات شعبية وحكايات فولكلورية مثل ##ياليل ياعين##, ويروي لنا مأساة الشاعر نجيب سرور, ويقدم لنا أعمال مبدعين من أمثال الكتاب عبد الحكيم قاسم وبدر الديب , والشاعرة ملك عبد العزيز, والفنانين التشكيليين صبري راغب وحامد عويس.
أما المقدمة التي كتبها الشاعرعبد الرحمن الأبنودي فهي تستحق وقفة. نقل الأستاذ توفيق حنا إلي مدينة قنا في صعيد مصر, ليدرس في مدرستها الثانوية. وكان من ضمن تلاميذه هناك أمل دنقل والأبنودي. ويحدثنا الأخير عن المعلم الجديد فيقول: ## ما هي إلا أيام حتي اكتشفنا أن مدرسنا ليس مدرسا وإنما هو عاشق رومانسي لا يري في الحياة سوي خيرها… كنا في الجنوب المصري نعاني فقرا حياتيا وثقافيا… إذ لم يكن يصلنا من الكتب سوي ما يفرط فيه أصحابه… كان الأستاذ توفيق حنا هو الكتاب الأهم الذي قرأناه في هذه الفترة… هبط بيننا كالمبشر الذي قرر أن يهدي شعب الغابة إلي النور… كنا مجموعة من موهوبين فقيري الثقافة… فجأة اكتشفنا ذلك الأستاذ المختلف… ليلتقطنا كلا علي حدة, فتتحقق أخوة ما سعي إليها معلم من قبل في حياتنا الدراسية… أشبه بقطع الحلوي راح يخرج من جيوبه مواويل وأغنيات وكلمات نور… لنكتشف أننا نملك كنوزا حقيقية… لا أبالغ أن أستاذ المدرسة الثانوية هو الذي دفع بي لجمع ## السيرة الهلالية##… هو الذي تسبب في بداية شهرتنا, هو الذي أطلق الشرارة الأولي… هو أول من اعترف بنا … ورأي أننا نستحق أن نسمع في القاهرة… قدمنا الأستاذ إلي حضور كثيف لأدباء ومثقفي مصر… كان لابد أن أبهج قلب من علمنا البهجة أستاذنا توفيق حنا… حارس مفتاح النيل وعاشق القرية المصرية الكبير توفيق حنا… ها قد تجرأت وكتبت عن أستاذنا الذي عشنا ننتظر كتاباته عنا, ربما لأن الزمن الذي نعيشه مقلوب اختلت موازينه, إنها الفرصة الوحيدة التي أستطيع بها رد الدين لدائن… يظل مهما حاولنا الحديث عنه من العسير الوصول إلي أعماقه المضيئة##.
كلمات بديعة تعرفنا بقدر المعلم الذي كاد أن يكون رسولا في نظر التلميذ الوفي المخلص الذي لم تجعله الشهرة والتألق ينسي فضل أستاذه الأول.
شكرا للأستاذ توفيق حنا علي هذا الكتاب الممتع, بأسلوبه البسيط الصادق; ولعله يصل إلي الأجيال الجديدة لكي لا تنسي هؤلاء المبدعين الذين جسدوا عبقرية مصر; وهو ما أتصور أنه كان هدف الكاتب, فكما جاء علي لسانه: ##وحتي لايقال ما قاله نجيب محفوظ : ## آفة حارتنا النسيان##.