مقدمة
بين عامي 1915 و1995, عاش أنطون سيدهم حياة حافلة بالعطاء المتنوع في مجالات شتي, فهو رائد في الاقتحام الجرئ لمهنة المحاسبة والمراجعة القانونية, التي كانت حكرا علي الأجانب وحدهم, وقد ارتقي بنشاطه هذا ليقتحم أسواق البلدان العربية المجاورة, حيث حقق نجاحا لافتا, كما أنه أدار باقتدار وكفاءة مؤسسة وطنية تعمل في مجال الأنظمة المكتبية والبنكية, متعاونا مع بعض أصدقائه وشركائه في تمصير شركة الكاتب المصري, وشاغلا لمنصب رئيس مجلس إدارتها أربعين عاما علي وجه التقريب.
ومن ناحية أخري, كان أنطون من مؤسسي بنك النيل, بعد العمل بقوانين الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات, وكان عضوا دائما في مجالس الإدارات التي تعاقبت علي البنك الناجح, الذي أسهم بإيجابية في قطاعات إنتاجية كثيرة, زراعية وصناعية, وسياحة وتعميرا.
أما الإسهام الأبرز لأنطون سيدهم فيتمثل في تأسيسه لجريدة وطني, التي تعد من علامات الصحافة المصرية المستقلة, ولنصف قرن منذ تأسيسها لعبت دورا مؤثرا في تدعيم الوحدة الوطنية, والدفاع عن النسيج المصري الواحد, الذي لا تمييز فيه بين مسلم ومسيحي.
كان أنطون من رواد العمل الاجتماعي الخدمي, الذي يهدف إلي تنمية وطنية إيجابية تعلي من شأن المواطنة, وكانت حياته كلها منذورة للوطن الذي أحبه وتفاني في العمل من أجله, فقدم بذلك أنموذجا مضيئا للمواطن الجاد الملتزم المحترم, الذي يعطي بلا توقف, ويضيف بلا كلل, ويؤمن أن الوطنية الحقيقية ليست كلاما وشعارات, بل هي ترجمة عملية وممارسة يومية لتجسيد فكرة الانتماء.
كان أنطون سيدهم مصريا مسيحيا, وكان غيره من الرواد في الاستثمار والعمل الاقتصادي مصريين, مسلمين ومسيحيين. وقد يكون الأصل في الأشياء هو الإهمال الكامل للمعتقد الديني عند الحديث عن الاستثمار ورواده, لكن بعض المتغيرات والإفرازات السلبية, الطارئة علي خريطة مجتمعنا, تحتم التوقف عند الانتماء الديني, للبرهنة علي أنه لا يمثل عنصرا ذا تأثير في مسيرة الإنجاز الاقتصادي, وغير الاقتصادي, فالأمر رهين بالوطن الذي يتسع للجميع دون تفرقة.
يتضمن الكتيب خمسة فصول وخاتمة. الفصل الأول: الهلال والصليب, يقدم استعراضا موجزا مكثفا عن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في إطار الانتماء الوطني والنسيج الواحد المتماسك الذي لا تخدشه بعض التوترات العابرة, وهو ما تجسد بوضوح عبقري في ثورة 1919.
يحمل الفصل الثاني عنوان مواطن محترم, وهو العنوان نفسه الذي يحمله الكتاب, ويركز علي رحلة أنطون في العمل البناء منذ نهاية الثلاثينيات, تمهيدا للفصل الثالث عن العلامة الأهم والأكثر شهرة في حياته: وطني, الجريدة التي تجاوزت الآن عامها الخمسين, ويعود إليه الفضل في تأسيسها واستمرارها وتحديثها والنهوض بها.
في الفصل الرابع: رؤي اقتصادية, استعراض تحليلي لبعض الآراء المهمة التي كتبها أنطون في افتتاحيات وطني, وتمزج هذه الكتابات بين العلم النظري, وليد الدراسة والثقافة, والخبرة العملية المكتسبة من التجارب الواقعية.
أما الفصل الخامس والأخير: أعلام ورموز, فيتوقف أمام بعض الشخصيات التي كتب عنها, بما ينم عن رؤيته الوطنية المستنيرة المتسامحة.
في الخاتمة, إشارة لأهم الدروس التي يمكن استنباطها من حياة المواطن المحترم, الذي عاش ثمانين عاما من العمل المخلص الدءوب, وما أعظم احتياجنا الآن لهؤلاء الذين يجسدون حبهم للوطن بالعمل والإنتاج.
مصطفي بيومي
الفصل الأول
الهلال والصليب
1- لا يتسع المجال هنا لحديث تفصيلي عن طبيعة العلاقات التي جمعت بين المسلمين والمسيحيين في التاريخ المصري, لكن الراسخ المستقر أن أتباع هاتين الديانتين, اللتين تتسمان بالتسامح والمبادئ الإنسانية النبيلة, يمثلون مجمل سكان مصر منذ دخول العرب المسلمين بقيادة عمرو بن العاص, فالذين ينتسبون إلي ديانات أخري لا يمثلون نسبة تستحق الذكر.
وعلي الرغم من تباين السياسات التي اتبعها الولاة عبر قرون متصلة, فإن المؤشر العام الجدير بالاهتمام يؤكد أن مظالمهم قد امتدت إلي المصريين جميعا, مسلمين كانوا أم مسيحيين, فضلا عن أن الأساليب المتبعة في الحكم كانت دنيوية خالصة وثيقة الصلة بالمصلحة, وليست ينية منبثقة من التعصب للعقيدة.
وتكشف السنوات الطوال للحروب الصليبية عن حقيقة مفادها أن الأغلب الأعم من المصريين المسيحيين قد انحازوا لانتمائهم الوطني, ولم ينظروا إلي الغزاة علي اعتبار أنهم صادقون مخلصون في شعاراتهم الدينية البراقة, التي تتخذ من الصليب والدفاع عن المسيحيين الشرقيين المضطهدين ستارا لحجب وتغطية المطامع السياسية والاقتصادية التي لا شأن لها بالدين
وإذا كان بعض المسيحيين قد تعاطفوا مع الغزاة بطريقة أو أخري, فإن نسبة مماثلة من المسلمين قد سلكوا النهج نفسه لأسباب انتهازية واضحة, فلا مناص إذن من تجنب التعميم والابتعاد عن استخلاص النتائج المغلوطة من معطيات وممارسات استثنائية.
ووفقا لما يذكره الدكتور مصطفي الفقي, في دراسته القيمة عن الأقباط في السياسة المصرية, فقد كان القرن التاسع عشر بمثابة مرحلة انتقال من أوضاع القرون الوسطي في الفكر والسياسة, إلي بداية دولة عصرية في مجالات الزراعة والصناعة والإدارة الحديثة والتعليم. ولما كان محمد علي يسعي إلي الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية, فقد أولي الشخصية المصرية اهتمامه, وشجع إرهاصات القومية المصرية التي كانت في الواقع ميلاد الدولة العلمانية في مصر الحديثة. وبقدر ما حاول محمد علي الاعتماد علي العنصر المصري في مشروعات وخطط دولته, من أجل خلق الدولة العصرية, فقد تأثرت سياسته تجاه الأقباط بصورة متوازية, مثال ذلك أنه لم يرفض قط أي طلب من أجل بناء كنيسة جديدة, وكان أول حاكم ينعم بلقب بك علي قبطي, كما أنه منح الأقباط جميع التسهيلات الضرورية للحج إلي الأراضي المقدسة.
وعندما تولي سعيد باشا السلطة في البلاد, اعتمد بدوره سياسة تقوم علي الاعتماد أكثر علي العنصر المصري, وهيأ لهم فرص تولي المناصب في الحكومة والترقي بالجيش, وكان يرغب في الحد من المشاركة التركية في جميع المجالات, وأزاح في النهاية العقبة الأخيرة لتوحيد المجتمع المصري وتحقيق تكامله, عندما قرر السماح للأقباط بالخدمة العسكرية في الجيش المصري, وألغي – في الوقت نفسه – ضريبة الجزية المفروضة علي غير المسلمين, وكان ذلك في العام 1855.
2- في ظل ولاية محمد علي, حظي بعض المصريين المسيحيين بمناصب رفيعة في الجهاز الرسمي للدولة, ومنهم المعلم جرجس الجوهري والمعلم غالي, كما التحقوا بالخدمة العسكرية في سنوات حكم سعيد باشا, أما عن النشاط الاقتصادي فقد نال المواطنون المسيحيون نصيبا مماثلا لما ناله المسلمون, ويتجلي ذلك بوضوح عند النظر إلي ملاك الأراضي الزراعية, فقد امتلك بطرس أغا أكثر من ألفي فدان في زمام جرجا, وملكية مقاربة كانت من نصيب جرجس إسطفانوس في أجا, فضلا عن نسبة لا بأس بها في محالج القطن ومعاصر قصب السكر.
ويذكر للخديو إسماعيل أنه عين مصريين مسيحيين في وظائف القضاء, ويتوافق ذلك مع طموحه إلي تأسيس دولة عصرية حديثة علي النمط الأوربي من ناحية ومع ارتفاع مستوي التعليم عند قطاعات متزايدة من المسيحيين من ناحية أخري.
ويمكن القول إن الموقف المسيحي من الاحتلال الإنجليزي لمصر بمثابة الامتداد لمواقف سابقة تجاه الحملات الصليبة والغزو الفرنسي في نهاية القرن الثامن عشر, فالأغلبية العظمي اتخذت موقفا معاديا للاحتلال, والأقلية الضئيلة تعاطفت معه وأيدته, والأمر نفسه نجده عند المسلمين, فقد انحازت نسبة مماثلة منهم لسلطة الاحتلال, وفي طليعة هؤلاء الخديو توفيق نفسه.
والإشارة واجبة هنا إلي أن البابا كيرلس الخامس كان مؤيدا للثورة العرابية في أهدافها الوطنية, وشارك في عدة اجتماعات حاشدة لتأييدها مع الإمام الشيخ محمد عبده وخطيب الثورة عبدالله النديم.
لم يميز الاحتلال الإنجليزي بين المسلمين والمسيحيين, بل إننا نجد ناشطا مسيحيا مثل قرياقوص ميخائيل يشكو بشكل صريح من الأذي الذي تعرض له الأقباط, إذ حرموا في عهد الاحتلال من وظائف كانت متاحة لهم من قبل, ولعل مما يؤكد جدية شكواه ما يقوله اللورد كرومر في كتابه الشهير مصر الحديثة, فهو يري أن المصري المسيحي قد أصبح من قمة رأسه إلي أخمص قدمه, في عاداته ولغته وروحه, كالمسلم تماما!.
3- علي الرغم من أن الحزب الوطني, الذي أسسه الزعيم مصطفي كامل, كان حريصا علي أن يضم في صفوفه عددا غير قليل من الرموز والقيادات المسيحية, إلا أن الأغلب الأعم من هؤلاء العناصر قد آثروا الابتعاد والانسحاب مع تصاعد نبرة الخطاب الإسلامي في ظل تصاعد نفوذ الاتجاه الذي يمثله الشيخ عبدالعزيز جاويش, وانضم معظم الراغبين في العمل السياسي إلي حزب الأمة, الأقرب في أفكاره وتوجهاته للقومية المصرية, بعيدا عن الولاء الديني لدولة الخلافة العثمانية, التي كانت تعيش في مرحلة التدهور والاحتضار.
وفي التجربة الحزبية الأولي, التي بدأت سنة 1907, أسس المحامي أخنوخ فانوس الحزب المصري ليعبر به عن الأقباط, لكن الحزب ولد ميتا بلا تأثير, ولم يمارس نشاطا ذا شأن, وانصرف عنه المسيحيون إذ أدركوا أنه يكرس الانقسام.
واللافت للنظر بحق, أن القيادات المسيحية المرموقة في تلك الفترة, ومنهم سينوت حنا وويصا واصف ومرقص حنا وواصف غالي, هم الذين تعرضوا لحملات عاتية جاوزت كل حد مقبول من صحيفة الحزب الوليد, إذ وصفوا بأنهم إخوان يهوذا الأسخريوطي, في إشارة صريحة إلي الخيانة!
وقد شهدت السنوات الأخيرة من العقد الأول في القرن العشرين توترا وصراعا بين المسلمين والمسيحيين, وتجسد ذلك بوضوح في المؤتمرين القبطي والإسلامي, وما سبقهما وواكبهما وترتب عليهما من شد وجذب, ولم يخل الأمر من شتائم ومهاترات ونزعات متعصبة متطرفة من الجانبين. وعندما عقد المؤتمران في أسيوط ومصر الجديدة سنة 1911, كان ويصا واصف هو الأكثر وضوحا وحزما ووعيا عندما حذر من الطائفية وخطابها البغيض, وهو الموقف نفسه الذي تمسك به أحمد لطفي السيد, أما النشاز الاستثنائي فكانت تمثله جريدة الوطن, التي خصصت صفحاتها للهجوم علي ويصا واصف وكل من يشبهونه في رفض الصراع الطائفي, وقالت إنه يهوذا الذي باع المسيح وأسلمه لليهود بالثمن البخس!
كان اغتيال رئيس الوزراء بطرس غالي, في العشرين من فبراير سنة 1910, حادثا مأسويا بكل المقاييس, لكن العقلاء الناضجين من المسلمين والمسيحيين حرصوا علي تقديم تفسير سياسي بلا شبهة طائفية, فقال شيخ الأزهر سليم البشري, وهو يخطب عند قبره, إن قليلا من المسلمين عملوا من الخير لبلادهم ما يمثل عطاء السياسي الكبير, أما الشيخ علي يوسف فقد وصف الاغتيال بأنه حدث محزن, وأكدت صحيفة اللواء, المعبرة عن الحزب الوطني, علي المعني نفسه.
لم يكن إبراهيم الورداني, قاتل بطرس غالي, متعصبا دينيا, فهو في الحقيقة متطرف وطني, رأي في الاغتيال ردا وحيدا علي مواقف رئيس الوزراء, ولاشك أن الاختلاف السياسي حول مد امتياز شركة قناة السويس, أو تعديل قانون المطبوعات, لا يمكن أن يكون هما دينيا.
4- كان المصريون جميعا علي موعد مع ثورة 1919, وإذا كان الثلاثة الذين توجهوا لمقابلة مندوب الاحتلال البريطاني, في الثالث عشر من نوفمبر سنة 1918, من المسلمين: سعد زغلول وعلي شعراوي وعبدالعزيز فهمي, فقد ذهبوا بصفتهم الوطنية لا الدينية, وبعد أيام من اللقاء التاريخي توجه وفد من رموز وقيادات المسيحيين لمقابلة سعد زغلول, وطلب الزعيم الجليل أن يختاروا واحدا ليمثلهم في المرحلة الجديدة من الحركة الوطنية, فرشحوا ثلاثة أسماء: واصف بطرس غالي, سينوت حنا, جورج خياط, وأدي الثلاثة القسم أمام سعد زغلول. وقد تساءل خياط عن الدور الذي يمكن للمصريين أن يقوموا به في الحركة الوطنية, فأجابه سعد بالتأكيد علي أن الأقباط مثل المسلمين, لهم نفس الحقوق, وعليهم نفس الواجبات, من منطلق أن المصريين جميعا سواء ولا تمييز بينهم.
لم يكن الأمر اختيارا بين الدين والوطن, لكنه كان اختيارا بين الأنماط المختلفة للجماعة السياسية: هل تقوم علي أساس الجماعة الدينية وحدها, أم الجماعة الوطنية؟
وهذا الاختيار هو ما حسمته حناجر الجماهير منذ مارس 1919. لم تكن سياسة الوفد, حزب الثورة, منذ بداية تشكيله, موجهة إلي التمسك بالوحدة الوطنية ودعمها فحسب, لكن الوفد نفسه, كمؤسسة سياسية, تم بناؤه علي نسيج مصري جامع, وتكونت قيادته وقواعده علي مبدأ المواطنة بصرف النظر عن الدين. وليس أدل علي نجاح الثورة في احتواء الفتنة الطائفية, التي أطلت قبل سنوات قليلة, من المشاركة الإيجابية للأقباط في أحداث الثورة.
القمص سرجيوس, الذي كان كثير التباكي علي ما آل إليه وضع الأقباط في مصر, امتزج في الثورة الشعبية, وكان من أبرز خطبائها, حتي أنه وقف علي منبر الأزهر يقول: إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم في مصر بحجة حماية الأقباط, فأقول: ليمت الأقباط وليحيا المسلمون أحرارا.
وقرياقوص ميخائيل, الذي كان مراسلا لصحيفة الوطني بالإسكندرية في السنوات الأولي من القرن العشرين, وسافر إلي لندن حيث أنشأ مكتبا للدعاية والإعلان دفاعا عن مطالب الأقباط وعن مقررات مؤتمرهم سنة 1910, وألف كتابا ساخنا عن المسألة القبطية, هذا الرجل نفسه يظهر بثوب جديد سنة 1919, فيؤيد الوفد والقضية المصرية, وينشط ضد الحماية, حتي تضيق به الحكومة الإنجليزية وتقوم بترحيله إلي مصر, حيث يستقبل بكل الحفاوة والتقدير, وتحفل الصحف بالحديث عن وطنيته المحمودة ونشاطه الدءوب في لندن.
وفي المقابل, يعبر مصطفي القاياتي عن مدي اعتزازه بالوحدة الوطنية, التي حققتها الثورة, بقوله: إذا كان الاستقلال سيؤدي إلي فصم الاتحاد, فلعنة الله علي هذا الاستقلال.
ويصيغ الشاعر محمد عبدالمطلب جوهر الفكرة التي تعبر عنها ثورة 1919, تجاه الوحدة الوطنية. ببيت شعر شهير:
كلانا علي دين به هو مؤمن
ولكن خذلان البلاد هو الكفر
5- لم تقتصر الوحدة الوطنية علي الكلمات والخطب فحسب, بل إنها تجسدت أيضا في مواقف عملية, فعندما أسندت رئاسة الوزارة إلي مصري مسيحي, يوسف وهبة باشا, في 21 نوفمبر 1919, رد المسيحيون علي قبوله لهذا المنصب بالتبرؤ منه, لأنه يخالف الإرادة الشعبية, وأصدروا بيانا يعلنون فيه أن وهبة باشا لم يمثل في وقت من الأوقات أماني الأقباط. وزار عبدالرحمن بك فهمي, مهندس الثورة وعقلها المدبر, مقر الكنيسة, ليعلن أنه إذا وجد قبطي خائن قبل الوزارة, فقد وجد من المسلمين سبعة مثله قبلوا الوزارة معه, بل تطوع طالب طب قبطي, هو عريان يوسف سعد, لاغتيال رئيس الوزراء المسيحي, حتي لا يساء تأويل الاغتيال إذا تم بيد مسلم!
لابد هنا من تسجيل التحفظ الكامل علي توجيه الاتهامات بالخيانة, ولابد أيضا من تأكيد الرفض غير المحدود لاعتماد الاغتيال وسيلة للتعبير عن الاختلاف السياسي, لكن الجدير بالاهتمام هو أن الاندماج بين عنصري الأمة قد تحول إلي رباط وثيق, جعلهما بمثابة العنصر الواحد, وكان هذا الاندماج أحد أعظم إنجازات ثورة 1919.
كان الاندماج الوطني الكامل بين المسلمين والمسيحيين إنجازا لا ينكره أحد من أعداء الثورة, وعندما بدأ العمل في الدستور سنة 1923, قاطع الوفد لجنة الإعداد, وما يعنينا هنا أن بعض أعضاء اللجنة قد طرحوا فكرة النص علي تمثيل الأقباط في المجالس النيابية, وهو ما قوبل برفض قاطع من أغلبية المسلمين والمسيحيين, الذين تحفظوا بلا حدود علي فكرة التمثيل الطائفي, وصرح الزعيم الوفدي ويصا واصف في حديث صحفي: إن مصر لا تعرف أكثرية وأقلية, والقول بأن القبط أقلية حكم عليهم بأنهم أجانب, ولن يكون في البرلمان إلا أحزاب سياسية بمعناها العصري, يكون القبط مبعثرين في هذه الأحزاب. ولم يكن القبط في أي وقت موضعا لتشريع استثنائي, بل عوملوا دائما كمصريين يتمتعون بكافة الحقوق وليس في مصر إلا جنس واحد تكون علي مر القرون المتعاقبة, وامتزجت الدماء بفعل التوارث بما يقوي علي أي فارق ديني, وإذ تكون البرلمان من أحزاب سياسية فقط فلا ضير ألا يكون فيه قبطي واحد.
6- مع الثورة الوطنية الشعبية, كان طلعت حرب يقود نهضة اقتصادية مماثلة, فقد تأسس بنك مصر عام 1920, في غمار الثورة ووسط المظاهرات والإضرابات السياسية, وحظي مشروع الاقتصادي الكبير طلعت حرب بتشجيع زعيم الثورة, وأصبحت المساهمة في تدعيم البنك عملا وطنيا لمواجهة السيطرة الأجنبية, وظهر أول مشروع للبنك في سنة 1922, وتزايدت المشروعات مع تزايد الإيداعات.
في الثامن من مارس سنة 1920, تم تحرير العقد الابتدائي بين كل من: أحمد مدحت يكن باشا, محمد طلعت حرب بك, إسكندر مسيحة أفندي, يوسف أصلان قطاوي باشا, عبدالعظيم المصري بك, عبدالحميد السويفي بك, عباس دسوقي الخطيب أفندي, الدكتور فؤاد سلطان, لتأسيس شركة مصرية مساهمة تحت عنوان بنك مصر. ينعكس تأثير الثورة علي أسماء وعقائد مؤسسي البنك, فهم من المسلمين والمسيحيين واليهود.
لم تكن النهضة الاقتصادية المصرية بعد ثورة 1919, التي قادها طلعت حرب, تعرف شيئا عن التمييز الديني, ومثلما أسهم المصريون المسيحيون في الحراك السياسي والثقافي والفني, فقد لعبوا دورا بالغ الأهمية في مسيرة الاقتصاد الوطني.
في ظل هذا المناخ الوطني الخالص من الشوائب, ظهر جيل من الرواد, آمن بأن الاستقلال الحقيقي ينبغي أن يكون سياسيا واقتصاديا, ومن هؤلاء أنطون سيدهم.
الفصل الثاني
مواطن محترم
1- قبل أربع سنوات من اشتعال ثورة 1919, شهدت مدينة طنطا, عاصمة مديرية الغربية, ميلاد أنطون سيدهم, وكان ذلك علي وجه التحديد في اليوم الثالث من شهر مارس سنة 1915.
تفتحت عينا أنطون الطفل علي القيم الإيجابية المضيئة للثورة الشعبية العظيمة, وعاصر في سنوات النشأة المبكرة أجواء خالية من شوائب التعصب والتمييز الديني والصراع الطائفي.
وقد تلقي تعليمه الابتدائي والثانوي, لظروف انتقال الأسرة, في مدينتي الزقازيق والإسكندرية, ثم التحق بكلية التجارة, جامعة فؤاد الأول, التي تغير اسمها إلي جامعة القاهرة, وتخرج فيها سنة 1938, ليبدأ حياته العملية في مناخ يبدو بعيدا عن الاستقرار علي كافة الأصعدة.
قبل عامين من تخرجه تم التوقيع علي معاهدة سنة 1936, أو معاهدة الشرف والاستقلال التي نظمت العلاقة بين مصر وإنجلترا وفق معايير جديدة, وهيأت لمرحلة مختلفة في التاريخ السياسي المصري, وكأنها الإعلان عن أقصي ما يمكن أن تصل إليه ثورة 1919 عمليا, أما عن الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فقد شهدت تحولات شتي, وكانت مصر تقف علي أبواب المزيد من التغيير الجذري مع اشتعال الحرب العالمية الثانية.
لم تكن أبواب العمل الحكومي ميسورة متاحة لخريجي الجامعات, ولم يكن الشاب الطموح يلقي بالا إلي الميري وسحر الوظيفة, ذلك السحر الذي سيطر علي الأغلب الأعم من أبناء جيله, والأجيال السابقة واللاحقة, وشل من حركتهم, وقلص الفرصة لتنمية مواهبهم. كان توجه أنطون إلي ساحة العمل الحر والمشروع الخاص, ومن المنطقي أن يكون موضع دراسته وتخصصه: المحاسبة القانونية, هو الذي يشده ويسيطر عليه, ولذلك تعاون مع زميله وصديقه وشريكه عزمي رزق الله, ليؤسسا مكتبا مصريا خالصا رائدا للمحاسبة والمراجعة, في عام 1939.
قبلهما, كانت هذه الساحة المهنية, بالغة الأهمية والخطورة, حكرا علي الإنجليز والأجانب, وقلة من المتمصرين. لم يكن للمصريين من نصيب إلا في الأعمال الإدارية الثانوية محدودة التأثير, وجاء مشروع أنطون وعزمي في طليعة المؤسسات الوطنية التي زاحمت الأجانب وأزاحتهم, وبرهنت علي حقيقة أن المصريين قادرون علي النجاح والتفوق, شريطة التسلح بروح الإقدام والمغامرة والمبادرة.
لم تكن مرحلة الأربعينيات مشابهة في أحداثها وقيمها السائدة لسنوات ازدهار وتوهج ثورة 1919 وما أرسته من المبادئ, وبعد أن كان السياسي المصري البارز مكرم عبيد هو الرجل الثاني في حزب الوفد, الذي يعبر عن الأغلبية ويحظي بالتأييد الشعبي الجارف, انشق بعد خلاف عميق مع مصطفي النحاس, ليؤسس حزب الكتلة الوفدية, وتضامن معه في هذا الانشقاق سبعة عشر عضوا من مجلسي الشيوخ والنواب, كتبوا خطاب استقالة جماعية من الوفد. واللافت للنظر أن ثمانية من المسيحيين ظهرت أسماؤهم في هذه الحركة الاحتجاجية: زكي ميشيل بشارة, ميشيل رزق, فهمي سليمان, نجيب ميشيل بشارة, لبيب جريس, ألفريد قسيس, فهمي القوصي, جورج مكرم عبيد, أي ما يقل قليلا عن نصف المؤيدين لمكرم, وهي نسبة تغاير المنطق الطبيعي للاختلاف السياسي, وتتجاوز ما يمثله المسيحيون في التعداد السكاني من ناحية وفي الوجود علي خريطة حزب الوفد من ناحية أخري.
قد يكون صحيحا أن الوفد لم يتراجع عن مبادئه الراسخة التي تعلي من شأن الوحدة الوطنية وتنبذ الطائفية, وأن الزعيم الوفدي مصطفي النحاس قد سارع بتعيين وزير مسيحي ليتولي حقيبة وزارة المالية بعد إقالة مكرم عبيد: كامل صدقي باشا, وأن الصحف الوفدية قد أكدت وأفاضت في التأكيد علي أن مكرم عبيد لا ينفرد بتمثيل المسيحيين في الحزب الكبير, لكن الصحيح أيضا أن خروج مكرم قد أثار القلق والتوتر, لما كان يرمز إليه ويجسده من تآلف وانسجام, وقد تنبه الكاتب الفذ نجيب محفوظ إلي الآثار السلبية لانشقاق مكرم, وجسد من خلال شخصية الوفدي المسيحي رياض قلدس, في السكرية, الهواجس التي انتابت الرأي العام المسيحي: سيجد الأقباط أنفسهم بلا مأوي, أو يأوون إلي حضن عدوهم اللدود, الملك, وهو مأوي لن يدوم لهم طويلا, وإذا اضطهدنا الوفد كما تضطهدنا الأقليات, فكيف يكون الحال؟. وإذ يسعي كمال عبدالجواد إلي التهوين من الأمر وبث الطمأنينة: لماذا تدفع بالأمر خارج حدود الطبيعة؟ مكرم ليس الأقباط والأقباط ليسوا مكرم, إنه شخص ذهب, أما مبدأ الوفد القومي فلن يذهب, يرد رياض معربا عن عدم اقتناعه: هذا ما قد يكتب في الجرائد, أما الحقيقة فهي ما أعني. لقد شعر الأقباط بأنهم طردوا من الوفد, وهم يلتمسون الأمان, وأخشي ألا يظفروا به أبدا.
من ناحية أخري, شهدت فترة الأربعينيات حراكا سياسيا نشيطا من قوي سياسية تتوزع بين أقصي اليمين وأقصي اليسار, ولم يكن صوت التعصب الديني غائبا أو خافيا عند بعض الاتجاهات التي يتزايد نفوذها وتأثيرها, مثل جماعة الإخوان المسلمين, وبدا واضحا أن الخريطة السياسية والفكرية آخذة في التغيير, وهو ما يعبر عنه الدكتور مصطفي الفقي في قوله: ومهما يكن الأمر فإن انفصال عبيد – القبطي البارز – من الحزب, قد غير إلي حد ما من الصورة التي عرف بها الحزب منذ أيام زغلول, كحزب للوحدة الوطنية, فقد كان وجود قبطي علي مستوي القمة في زعامة الوفد رمزا له معناه ومغزاه, وكان يعطي دائما الحزب شخصية متميزة, وقد كان خروج عبيد من الحزب نهاية لجيل المؤسسين من الأقباط في الوفد, من أولئك الذين بدأوا مع زغلول, مثل واصف ويصا وسينوت حنا وواصف غالي, ثم مكرم عبيد.
لم يكن مستغربا أن تتراجع المشاركة السياسية للمسيحيين, علي نحو ملموس, خلال حقبة الأربعينيات, وكان منطقيا ومبررا أن ينهمك أنطون سيدهم في عمله, ويسعي إلي ازدهار مؤسسته الخاصة, فمثل هذا النجاح الاقتصادي يبدو إسهاما وطنيا يتجاوز الانخراط في السياسة بمعناها المباشر, خاصة أن العهد كله كان يترنح, ويتهيأ الواقع لاستقبال ثورة يوليو 1952.
3- لاشك أن أنطون سيدهم قد أفاد من سياسة ثورة يوليو الاقتصادية في سنواتها الأولي, وبخاصة بعد العدوان الثلاثي سنة 1956, وما صاحبه وترتب عليه من عمليات الطرد للأجانب والحد من نفوذهم الاقتصادي, فقد اشترك أنطون مع مجموعة من رجال الأعمال الوطنيين لشراء أسهم وأصول شركة الكاتب المصري من أصحابها الأجانب, وهي شركة تعمل في مجال الأنظمة المكتبية والبنكية وما يتصل بها من أجهزة وآلات, علاوة علي الحاسبات الإلكترونية والأجهزة المتقدمة للإدارة. وقد شغل أنطون سيدهم منصب رئيس مجلس إدارة الشركة, والعضو المنتدب لها, منذ التأسيس سنة 1957, حتي رحيله سنة 1995.
في المرحلة نفسها, احتفظ سيدهم بمؤسسته المتخصصة في ا لمحاسبة والمراجعة, بل إنه طور من نشاطها وتوسع في الإطار المكاني للعمل, ويتجلي ذلك في تأسيسه لمكتب جديد في المملكة الليبية قرب منتصف الستينيات, وازدهر عمل المؤسسة في ليبيا مع تنامي العوائد البترولية وازدهار حركة العمران والتطوير في المملكة, ولم يتراجع النشاط وصولا إلي التوقف الكامل إلا بعد سنوات من قيام الثورة الليبية, التي تبنت نهجا اقتصاديا مختلفا عما كان سائدا.
ولقد كان أنطون سيدهم, مسلحا بخبرته العريضة وحسه الاقتصادي الوطني الملتزم, في طليعة من تواصلوا بشكل إيجابي مع قوانين الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات, فكان من مؤسسي بنك النيل, الذي يعد أنموذجا للنشاط البنكي المصري الخالص في مواجهة عديد من البنوك الأجنبية, واستطاع هذا البنك أن يحقق نجاحا لافتا أكسبه ثقة المتعاملين معه, وأسهم بجهد موفور في عدد كبير من الأنشطة المتنوعة, تجسدت في شركات تعمل في قطاعات الزراعة والصناعة والتعمير والسياحة, وظل أنطون سيدهم عضوا في مجالس الإدارات المتعاقبة للبنك وشركاته حتي رحيله.
4- فضلا عن أنشطته الاقتصادية المتنوعة, التي جمع فيها أنطون سيدهم بين الإدارة الواعية والاستثمار المالي, فقد أبدي الرأسمالي الوطني اهتماما كبيرا بالعمل الاجتماعي, ليقدم مثالا مضيئا عن الدور الاجتماعي المنشود لرجال الأعمال, علي اعتبار أنهم عناصر فاعلة لا ينبغي لها أن تتقاعس أو تتكاسل في التعامل مع المجتمع وقضاياه وهمومه, والاشتباك مع معطيات الواقع والتصدي لها.
لم يكن أنطون سيدهم ممن ينغلقون علي ذواتهم ويتقوقعون في دائرة العمل الاقتصادي والمهني وحده, فقد تطلع دائما إلي دعم الأنشطة المجتمعية الإيجابية, هادفا من ذلك إلي تنشئة جيل من الشباب المسلح بالقيم والمبادئ التي تدفعه إلي مزيد من الانتماء والإنتاج, فلم يكن مستغربا أن يشارك في فعاليات الكثير من الجمعيات والمنظمات الأهلية, وهو ما يصل إلي الذروة عند النظر إلي صلته الوثيقة بجمعية الشباب المسيحية, وقد ترأس مجلس إدارتها لسنوات متصلة, ودعم أنشطتها الرياضية والاجتماعية والثقافية. واللافت للنظر, هو ذلك الحرص الدائم علي تأكيد أن الجمعية مسيحية, وليست محتكرة للمسيحيين, ذلك أن أبوابها مفتوحة للمصريين جميعا دون استثناء أو تمييز.
وقد توج أنطون سيدهم رحلة كفاحه الجاد بانتخابه عضوا في مجلس الشعب, نائبا عن دائرة شبرا, ومرشحا للحزب الوطني الديموقراطي في عام 1984. وخلال عضويته بالمجلس, انضم إلي اللجنة الاقتصادية, حيث يتسع له المجال لتقديم رؤاه وأفكاره التي تشكلت وازدادت نضجا وحكمة, عبر ما يزيد علي نصف قرن من العمل الدءوب المتصل.
وقد حظي أنطون بتكريم من الرئيس جمال عبدالناصر, الذي منحه نوط الامتياز في العمل الاجتماعي سنة 1966, وبعد أسابيع من وفاته, منحه الرئيس محمد حسني مبارك وسام العلوم والفنون من الطبقة الثانية.
يقترن اسم أنطون سيدهم بكثير من الأنشطة والإنجازات, الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, وليس من تعبير يفي الرجل حقه إلا القول إنه مواطن محترم, أدي واجبه في الحياة كاملا, ولم يعش لنفسه فقط, بل إنه عرف لذة الانتماء إلي المحيط الخارجي الذي يتسع للآخرين, من أبناء الوطن. وتبقي العلامة التي تقترن به دائما متمثلة في مشروعه الصحفي وطني, الصحيفة التي بدأ ظهورها أسبوعيا من عام 1958, ولا يستطيع مؤرخ دقيق منصف لتاريخ الصحافة المصرية إلا أن يتوقف عندها وعند مؤسسها.
الفصل الثالث
وطني
في رسالة الماجستير التي حصل عليها رامي عطا صديق من كلية الإعلام بجامعة القاهرة, سنة 2005, ثم صدرت في كتاب عن المجلس الأعلي للثقافة يحمل عنوان صحافة الأقباط وقضايا المجتمع المصري, دراسة متميزة عن عالم الصحف الي أصدرها المصريون المسيحيون بين عامي 1877 و1930, وقد توصل الباحث الجاد إلي عدد من النتائج المهمة التي يبدو استعراضها ضروريا في معرض الحديث عن صحيفة وطني التي أصدرها أنطون سيدهم بعد أكثر من ربع قرن علي التاريخ الذي توقفت عنده الدراسة.
يرصد الباحث عددا من العوامل التي شجعت المصريين المسيحيين علي إصدار الصحف, ومن ذلك بزوغ مبدأ المواطنة مع تأسيس مصر الحديثة في عصر محمد علي وخلفائه, وكذلك النهضة التي شهدتها مصر خلال تلك المرحلة تعليميا وثقافيا, فضلا عن ميلاد وانتشار الصحف الخاصة المملوك للأفراد, مصريين أو شواما أو أجانب.
وثمة عوامل موازية ترتبط بالمصريين المسيحيين أنفسهم, وأهمها انتشار التعليم في أوساطهم, اعتمادا علي المدارس الحكومية والأهلية, وتصاعد الإحساس بأهمية العمل الأدبي والثقافي, الذي تعد الصحيفة محورا مهما لتدعيمه.
وفي موضع آخر, تشير الدراسة إلي أن فترة العشرينيات من القرن العشرين قد شهدت تناميا ملموسا لهذه الصحف, ولاشك أن الفضل في ذلك يعود إلي المناخ الذي صنعته ثورة 1919. وفي هذا الإطار, برزت ولمعت أسماء عديد من الصحفيين المسيحيين الذين أصدروا هذه الصحف وشاركوا في تحريرها, ومن أشهرهم: ميخائيل عبدالسيد, جندي إبراهيم, سلامة موسي, ميخائيل بشارة, تادرس شنودة, ملكة سعد, توفيق عزوز, فرج سليمان ورمزي تادرس.
ويرصد الباحث حقيقة أن الصحف المسيحية قد فتحت صفحاتها للمصريين جميعا دون تمييز, ذلك أنها إصدارات وطنية في المقام الأول, ولا يتعارض هذا الانتماء الوطني مع الخصوصية في اهتماماتها ومعالجتها لبعض القضايا.
ولعل النتيجة الأكثر أهمية في دراسة رامي عطا هي البرهنة علي أن المسيحيين من خلال صحفهم هذه قد أسهموا بجهد وافر في إثراء الصحافة المصرية, مثلهم في ذلك مثل المسلمين الذين أصدروا صحفا. الجميع مصريون, يتفاعلون مع قضايا المجتمع المصري, ولا يمثل الانتماء الديني حائلا دون الذوبان في النسيج العام الذي ينخرط فيه الجميع.
2- للصحافة الدينية في مصر تاريخ حافل وواقع مزدحم بالإصدارات, ولا يتسع المجال هنا للإحاطة ببعض الجوانب التاريخية والواقعية لهذا النمط المهم من الصحف, لكن التمييز يبدو ضروريا بين المطبوعات الدينية الخالصة, تلك التي تهتم في المقام الأول بالجوانب العقائدية المتعلقة بالدين الذي تعبر عنه, وبين الصحف التي تمزج في المعالجة بين الديني والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والفني والرياضي, وتعلي من شأن فنون التحرير الصحفي المختلفة, حيث الخبر والتقرير والتحقيق والمقال, والصورة والعنوان والكاريكاتور والإخراج, فوفق هذا التوجه يمكن القول إنها لم تعد دينية خالصة.
ثمة صحف ومجلات إسلامية, حديثة ومعاصرة, لا يمكن إلا أن تكون دينية, مثل مجلتي الأزهر ومنير الإسلام, علي سبيل المثال, فالأولوية في هاتين المجلتين للخطاب الديني بقضاياه المختلفة, والقليل من الاهتمام يتجه إلي الاشتباك مع قضايا الواقع ومتغيراته من منظور إسلامي, ينبئ عن اجتهادات القائمين علي شئون التحرير. أما إصدارات مثل المختار الإسلامي والدعوة, المجلة الأسبوعية ثم الشهرية, التي كانت تعبر عن جماعة الإخوان المسلمين حتي سنة 1981, فإن البطولة فيها ليست للمسائل الدينية المتخصصة, وإن لم تغب تماما عن الاهتمام, ذلك أن التركيز الأكبر ينصب علي المعالجات السياسية والفكرية والاجتماعية, التي تعكس توجها دينيا أقرب إلي التعبير عن الأيديولوجية منه إلي العقيدة.
في المقابل, فإن المجلات المسيحية الي تعبر عن الطوائف المختلفة, مثل رسالة الشباب الكنسي ومدارس الأحد والكرازة ورسالة الكنيسة والصلاح والهدي وأجنحة النسور وأعمدة الزوايا, أقرب إلي الصحافة الدينية المتخصصة, حيث تولي قضايا الكنيسة واللاهوت أولوية مطلقة, مع التطرق إلي الأمور الدنيوية وفق حسابات دقيقة لا تميل إلي المبالغة في الاهتمام, أو الإسراف في المزج بين الديني والسياسي.
الأغلب الأعم من هذه الإصدارات الدينية, إسلامية كانت أم مسيحية, لا تعرف التنوع والابتكار في فنون التحرير الصحفي, ويبدو الحرص علي تقديم المضمون المباشر الصريح هو الزاعق المهيمن, وفي هذا السياق المغلق, ذي الاتجاه الواحد, لن يجد القارئ المسيحي ما يجذبه في الصحف والمجلات الإسلامية والعكس صحيح.
مثل هذا المدخل يبدو ضروريا للتأكيد علي أن جريدة وطني, كما يعرف المتابعون لها, لا تندرج في قائمة الصحافة الدينية بالمعني التقليدي للمصطلح, ولا يعني هذا أنها لا تتطرق إلي القضايا والهموم المسيحية, وهموم المواطن المصري المسيحي, سياسيا واجتماعيا وثقافيا, لكنها بعيدة كل البعد عن الانغلاق الذي يحول دون انتشارها في الأوساط غير المسيحية, فهي تجربة صحفية ناجحة ناضجة متماسكة متوازنة, ولن يعدم القارئ المسلم فيها ما يفيده ويلبي احتياجاته, فضلا عن أن الكتاب الذين يواظبون علي الكتابة فيها ليسوا كلهم من المسيحيين, وهو ما يمثل فارقا جوهريا مقارنة بالإصدارات الأخري.
3- يقترن اسم أنطون سيدهم بجريدة وطني, فإليه يعود الفضل في تأسيسها والمحافظة علي انتظامها في الصدور, مع الحرص علي تطويرها وتحديثها. قد يجهل كثير من المصريين إسهامه الاقتصادي المتميز المتنوع, وقد لا يعرفون النشاط الاجتماعي والثقافي له, لكن لا يستطيع أحد إلا أن يقفز اسم الرجل إلي ذاكرته إذا ذكرت وطني, فهي علامته ورايته.
قبل أن يصدر الجريدة التي نذر لها الكثير من وقته وجهده وماله, كانت للرجل مشاغله الاقتصادية وأنشطته الاجتماعية التي تملأ حياته وتغنيه عن تحمل عبء إصدار صحفي, يحتاج إلي كثير من العمل الشاق, لكن الحماس للمشروع الصحفي المستقل بمثابة الامتداد لرغبة أنطون سيدهم في العمل العام الذي يتجاوز النطاق الفردي المحدود. وإذا كان إصدار صحيفة أو مجلة من الأمور الميسورة التي لا تحتاج إلي عناء, قبل ثورة 23 يوليو, فإن الأمور قد اختلفت جذريا بعد الثورة, وازدادت تعقيدا بهيمنة الدولة والتنظيم الواحد علي كافة المؤسسات الصحفية, وهو ما أدي إلي تراجع المشروعات الصحفية الجديدة, وتهديد ما كان قائما منها من قبل, وصولا إلي التأميم الكامل.
كان الطموح الذي يراود أنطون سيدهم, وهو يشرع في إصدار الصحيفة التي حملت اسم وطني, هو التعبير عن جملة آرائه الموضوعية في القضايا العامة, ومنح الفرصة لمن يشاركونه مثل هذه الرغبة في التعبير عن تفاعلهم مع كافة القضايا المطروحة علي الساحة الوطنية. لم يكن التناول الديني, بالمعني التقليدي الشائع, هو الهدف الذي يسعي المؤسس إليه, فهو يتطلع إلي تقديم خدمة صحفية راقية, تجذب القارئ المسلم والمسيحي علي حد سواء, وتعالج وفق الحدود المتاحة من حرية التعبير – قائمة مطولة من الهموم السياسية والقضايا الاقتصادية والتحولات الاجتماعية والثقافية والأدبية والفنية, فضلا عن الأنشطة الرياضية والشبابية.
قاد أنطون سيدهم فريق العمل لتذليل العقبات غير القليلة التي تصادف بالضرورة فكرة إصدار صحيفة مستقلة قرب نهاية الخسمينيات, فالوصول إلي المحطة الأخيرة يحتاج إلي ترخيص معقد الإجراءات, وموافقة أمنية, وتحديد صارم الوضوح للسياسة التحريرية وشكل الإخراج الفني, فضلا عن الأسلوب الأمثل لمخاطبة القارئ والتواصل معه.
لم يكن اختيار الاسم بالعمل الميسور, ذلك أن قانون المطبوعات المعمول به وقتها كان ينص علي ضرورة أن يكون الاسم جديدا لم يسبق استخدامه من قبل في إصدار سابق, دون النظر إلي استمرار المطبوع القديم أو توقفه. ووفقا لما يرويه الأستاذ مسعد صادق, أحد الذين شاركوا في تأسيس الصحيفة منذ المراحل الأولي, فقد وقع الاختيار علي اسم وطني, غير المسبوق استخدامه, علي أن يضاف إلي العنوان بيت شعري شهير لأمير الشعراء أحمد شوقي:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي
ولقد شارك في الإعداد لصدور الصحيفة, كل حسب إمكاناته وتخصصه, عدد غير قليل من أصدقاء أنطون سيدهم, وكلهم يؤمنون بمثله وقيمه الوطنية, ويشاركونه في تقدير أهمية وجود صحيفة مستقلة, ومن هؤلاء المشاركين, عدلي أبادير يوسف, عزمي رزق الله, مراد كامل, سعد فخري عبدالنور, إدوارد بشري, عزيز سليمان, جورج إلياس.
كان إصدار وطني مغامرة محفوفة بالعديد من المخاطر والصعوبات وإذا كانت التحديات التي تواجه الإصدار الصحفي في أيامنا هذه تتمثل في المشاكل التحريرية والتمويلية, فإن المرحلة التي ولدت فيها وطني كانت تفرض قيودا شتي, وتتطلب إجراءات معقدة. يحتاج النجاح إلي إرادة قوية وتصميم لا يلين وصبر ودأب وعزيمة, ولأن هذه الصفات جميعا كانت مما يتسم به أنطون سيدهم, عاشق العمل المنظم الذي لا يترك شيئا للصدفة, فقد استطاع بحكمته وحنكته أن يقود القافلة بنجاح, وأن يحمل راية الصمود وصولا إلي شاطئ الأمان.
وقع الاختيار علي الصحفي القدير عزيز ميرزا, أحد رؤساء تحرير الأهرام السابقين, ليتولي رئاسة تحرير وطني, وتمكن أنطون من إقناعه وتذليل العقبات التي قد تعرقل الاتفاق معه, ولأنه كان لزاما أن تصدر الصحيفة – بحكم القانون – عن شركة, فقد تشكلت شركة مساهمة مصرية تحمل اسم شركة الجرائد المصورة المصرية, وتولي أنطون رئاسة مجلس إدارتها.
اكتمل الشكل القانوني, وتم استيفاء الإجراءات الكثيرة التي تطالب بها إدارة المطبوعات, وأودع أنطون مبلغ تأمين الترخيص في البنك الأهلي, مع استخراج وثيقة الضمان. كان الترخيص يبيح الصدور يوميا, لكن مثل هذه الخطوة الجريئة لم تكن قابلة للتنفيذ, فإذا كان العدد الأسبوعي يتطلب عملا شاقا مرهقا متصلا, فكيف يكون الأمر بالنسبة للصدور اليومي؟!
وفقا لما يرويه الأستاذ مسعد صادق, فقد أعد أنطون سيدهم العدة لصدور الجريدة: فاستأجر لها مكانا في العمارة الجديدة المشيدة بجوار نادي رمسيس القديم بشارع ألفي بك, وهي العمارة التي بدأت منها إصداراتها الأولي قبل أن تنتقل إلي مكانها الحالي: 27 شارع عبدالخالق ثروت بوسط القاهرة, وزود المكان بالأثاث والمكاتب ومتطلبات العمل, وكان قد شكل لجنة لتلقي طلبات العمل بها, سواء في التحرير أو في الإدارة, وكان يفحصها بنفسه لاختيار فريق العمل الذي سوف يتعاون معه في التحرير والإدارة.
ويضيف مسعد: وقاد الأستاذ أنطون سيدهم فريق العمل في وضع اللمسات الأخيرة للجريدة, وكان قد اختمر في ذهنه تصور كامل لخطوطها الرئيسية ولرسالتها وخطتها ومبادئها وأهدافها, وشقت الصحيفة طريقا مستقيما لأداء رسالتها خالصة لوجه الله والوطن, وكانت سباقة في ميدان الفكر وفي حلبة الإبداع والابتكار, وكانت البادئة بمبادرات نقلتها عنها صحف أخري.