نسير مثل القطار علي القضبان نرفض أن نخرج عنها…أو نوقف دقات الساعة لدقائق نرتاح ونخلد فيها لعمق النفس…نفعل ذلك أملا وطموحا في مكسب أكبر…في غد أفضل…من أجل الأبناء فلذات الأكباد…وكحبات العقد المتلاصقة تمضي الأيام…تسقط منا فرصة كبري بأن نغرس في النشء الغالي قيما أغلي ونفيق نجد أننا فقدنا الأغلي وفقدناهم…فوق تقاسيم الوجه العابس كانت تلك قراءاتي فيه…حين تقدم نحوي بخطي ثقيلة وطلب الراحة مما يضنيه…قال العابس:لست بغاضب لكنني حزين…لست بواجم لكنني حزين…لم تقطر نفسي خجلا بل حيرة… أنا رجل في الخامسة والأربعين من عمري…أعمل في مركز مرموق جدا…ميسور الحال..لدي ابنان وبنت في سن المراهقة والشباب…الأكبر في العام الجامعي الأول سنة 18عاما…ابن عمري…لست بمقصر في أي من احتياجاته…لن أدعي أنني أعرفه جيدا حتي أصف خصاله لك يا سيدتي..فبعدما فعل ما فعله مؤخرا…لا يمكن أن أدعي أنني كاشف ما في نفس ابني من خبايا…ولا حتي أنني عالم بالبعيد القريب فيها.
غرق الرجل في بحر من العرق….وأخذ يتصبب عرقه فوق وجهه حتي أنه كان يبتلعه بين شفتيه في توتر شديد…طلبت منه أن يهدأ…فقال اتركيني أكمل حديثي وحينها سوف تعلمين أن ما في صدري من نيران لا يمكن أن يهدأ…أنصت إليه فأكمل قائلا:منذ أيام دق باب منزلي وإذا برجل في مثل سني يسألني عن ابني…فأجبته أنه بالداخل من أنت؟قال:أنا والد صديقه فلان…رحبت به وطلبت منه الدخول غير عالم بما يكتمه عني..رفض الرجل وفي حرج بدأ يقول:ابني تعرض لسرقة هاتفه المحمول…وكان ابنك ملازما له…لم يكن معهما آخر…كانا سويا في النادي ووضع الاثنان حاجتهما في حقيبة ابنك وفجأة استأذن ابنك وذهب ليأخذ حقيبته معتذرا عن استكمال اليوم بحجة مرض عمه المفاجئ…بعدها مباشرة اكتشف ابني سرقة المحمول الخاص به, هذا التليفون لم يمر علي شرائه يوم واحد…وثمنه 1600 جنيه…أرجو منك أن تسامحني لكنني لن أستطيع التفريط في حق ابني..وهذا لصالح ابنك أيضا…إن لم يصلنا الموبايل الليلة سوف أبلغ الشرطة لاتخاذ الإجراء القانوني…فابني علي يقين أن صديق عمره…ابنك هو من سرقه.
وقفت صامتا يا سيدتي لا أعرف بما أجيب علي اتهام هذا الأب الذي أعلم جيدا أنه في حالة مادية واجتماعية أقل من حال أسرتي بكثير, طلبت منه الانصراف علي وعد أنني سوف أتحري الأمر…كالمجنون دخلت إلي غرفة ولدي…قمت بتقتيشها في كل ركن تركت بصمتي…ثم خرجت من غرقته متتبعا إياه إلي غرفة والدته التي اختبأ إلي جوارها كما لو عاد طفلا…ولا أعلم من أين تيقنت أنه فعلها رغم أنني أترك آلاف الجنيهات في منزلي ولا يلمسها..وبدأ حواري معه:
أنا: عملت ليه كده؟
هو:ما عملتش حاجة…ماخدتش حاجة.
أنا:فين الموبايل؟
هو:إزاي تصدق في يا بابا إني حرامي!!
أنا: هات الموبايل وماتخافشي مش عايزين مشاكل الناس هايبلغوا الشرطة.
هو:الشرطة؟!!
أنا: أيوه الشرطة لازم نرجع لهم المحمول الليلة.
هو:بابا…بابا…أنا مش عارف عملت كده إزاي أرجوك تسامحني إني حطيتك في الموقف دي.
ثم أخرج ابني المحمول من جيبه وأعطاني إياه…لم أشعر بنفسي إلا ويدي تسقط فوق وجهه بصفعة واحدة قوية تملأها معاني الحزن علي ما وصل إليه…بكي وبكت أمه…انتزعت التليفون من بين يديه وانطلقت في طريقي إلي أسرة صديقة..هرعت أمه خلفي متوسلة إياي ألا أفضح ابننا فهو في سن الشباب والناس لن تنسي ما فعله…لم أعيرها اهتماما…زادت في توسلاتها…وسعيت في طريقي…كان علي أن أصلح الأمر برمته في وقت مناسب يحفظ حق الناس ويحفظ أيضا ماء وجهي…ذهبت إلي منزل صديقه فتح الباب…أصر علي دخولي واستضافتي…أخرجت الهاتف من جيبي…أعطيته لصديق ابني وقلت له…ابني هو إللي سرق التليفون أنا آسف ومتشكر جدا علي موقفكم. في سرعة شديدة أجاب الرجل:أعدك أنه ما من أحد سيعلم بتلك الواقعة أبدا وأنا وأسرتي وابني ملتزمين أمامك بهذا الوعد.
عاد الرجل ليتصبب عرقا من جديد ويقول: مع كل درجة من درجات السلم كنت أهبطها وتهبط معها كرامتي وأبوتي…لكنني لم يكن بوسعي عمل أي شئ سوي ما فعلته…عدت إلي المنزل صامتا…أتلقي لوم زوجتي وأبنائي…إنهم يرون فيما فعلت جريمة لا تغتفر…يرونه أشد جرما مما فعل ابني عندما امتدت يداه وسرق صديقه…وأنا حزين…حائر…مهموم…لا أعلم سبب ما ارتكبه ابني…ولا أعلم كيف أرمم ذاك الشرخ الذي أصاب شخصيته أو أصلح الكسر الذي أصاب ثقتي فيه…أنا حتي لا أعلم هل إعادتي الهاتف واعترافي أمام هذه الأسرة النبيلة كان من الصواب أم أن الحكمة خانتني؟ إني أتخبط فهل من مشورة؟
رد المحررة:
هناك أشياء علينا أن نبحث عن أسبابها جيدا لأنها مصيرية…والوصول للسبب يصل بك حتما إلي العلاج فلا تعر انتباها لحديث زوجتك…ولا للوم من يلوم من أبنائك…فمن الطبيعي أنهم يخجلون من افتضاح الأمر…متصورين أن كشفه أو الاعتراف به يسئ إليهم جميعا…غير عالمين أن في بعض الأحيان الاعتراف بالخطأ يدرء الخطر ويمنع خطرا أكبر…ويمنع إساءة لن يمحوها الزمن…وأنا هنا أوجه حديثي إلي زوجتك فأنا أم وأعلم مشاعر الأم حينما تسيطر المخاوف علي المرأة فتشحن ذهنها باللامعقول لتفرغه فقط لاحتواء أخطاء ابن أو ابنة…لكن علينا أن نعي أن في مواجهتنا للحقيقة قطع نصف المسافة للشفاء مما أصاب أبناءنا من عوار في التربية…وليس فقط الشفاء بل أيضا الوصول بهم إلي بر الأمان.
إذا أردت أن يحترمك الآخرون كن فقط صادقا فالصدق الحكيم ينتج شموخا..ويكسبك ثقة الناس هكذا تعلمنا…وقد كنت صادقا يا عزيزي فما فعلته عين الحكمة…لأن صديق ابنك كان واثقا أنه هو من سرق المحمول…فأي مراوغة أو اختلاق لقصص وهمية لوضع أي تبرير كان دربا من العبث…صدقك يدعو للاحترام..بل ويدعو للفخر…أنت رجل بمعني الكلمة…ما فعلته صواب لكن لم يعد هذا هو المحك الآن فالمحك الحقيقي هو سبب ما ارتكبه الابن رغم أنه غير محتاج…وأنتم أسرة ميسورة الحال كما ذكرت…بل والأكثر من ذلك والأخطر أنه لم يفعل ما فعله مع شخص بعيد عنه أو غريب بل فعله مع صديق عمره الذي يعلم جيدا أنه إذا ما اكتشف الحقيقة- وهو ما حدث للأسف- سوف تكون قطيعة وربما تصاحبها فضيحة. فلنبحث ما الخلل الذي أصاب نفس الابن حتي يؤتي ما أتاه من فعل, يجب عليك اصطحابه إلي الطبيب النفسي…فالذي يسرق لاحتياجه ربما يغفر له الناس لكن الذي يسرق وهو غير محتاج فهذا غير طبيعي ويجب تتبعه كما أنك يجب أن تراقبه دون أن تجرحه حتي تعرف ما إذا كان يكرر هذا الفعل معكم أم لا؟ وكن علي يقين أنك ربما تألمت اليوم لأجل ابنك…لكن الحال لن يبقي علي ما هو عليه وغدا ستفخر به…واحمد الله أن العائلة التي حدثت معها الواقعة عائلة نبيلة كما وصفت ولن تستخدم ذلك في التشهير بابنك ولن تسبب أية فضائح في المستقبل.لكنه خسر صديقه علي أية حال…يرق قلبي لحال هذا الصديق الذي كان يثق فيه فلم يجد منه سوي الغدر في تلك السن التي تتسم بالحساسية في العلاقات الإنسانية.
لن أتهمك بأنك شريك فيما حدث بتدليلك إياه أو بانصرافك عنه والالتفات لعملك لكنني أدعوك أن تمنحه من وقتك قسطا أكبر ربما يكون في ذلك بعض الدواء…في حياتنا أشياء ثمينة إذا ما ذهبت ذهبت قيمة الحياة وأبناؤنا أثمن ما لدينا فلا تفقدهم مهما آلمك الواقع المرير من سلوكهم….
ــــــ