أعلن ضباط يوليو أنهم مع الشعب. وكان المنتظر, كترجمة واقعية لهذا المبدأ, أن يساندوا مطالب العمال الذين هتفوا للضباط وتفاءلوا بهم, اعتصم عمال كفر الدوار مساء 12/ 8/ 52 لتحقيق بعض المطالب الاقتصادية, وكانوا في شبرا الخيمة وغيرها علي درجة عالية من الوعي والتحضر فكتبوا علي اللافتات المصانع أمانة في أعناقنا.. أرزاقنا في هذه المصانع فحافظوا عليها هذا التظاهر السلمي واجهه الضباط المنادون بـ(القضاء علي سيطرة رأس المال) بمحاصرة المصانع بالدبابات (د. فخري لبيب- الشيوعيون وعبدالناصر ج1 ص94).
تصاعدت الأحداث يوم 13 أغسطس, تم القبط علي 576 عاملا, كان من بينهم أطفال في سن العاشرة. بعد يومين صدر الحكم بالإفراج عن 545 عاملا والحكم علي 29 بالسجن. وكان المطلوب إعدام 29 عاملا وتم الاكتفاء بإعدام عاملين (مصطفي خميس البالغ من العمر 18 سنة) و(محمد البقري البالغ من العمر 19 سنة ونصف), وصدر الحكم بعد خمسة أيام. وأصر الضباط علي أن يتبعوا أسلوب الإنجليز الذين حاكموا وأعدموا جدودنا فلاحي دنشواي عام 1906, فجمعوا 1500 عامل في النادي الرياضي بكفر الدوار (ملعب كرة القدم) ليسمعوا النطق بالحكم بإعدام العاملين المذكورين, ليكون تجميع العمال رسالة إرهاب. وعن هذا المشهد الذي يستدعي من بئر الأحزان أحداث دنشواي, كتب المؤرخ العمالي طه سعد عثمان أن عاملا من الذين حضروا إعلان الحكم مجبرين قال: إن ما تعرض له جميع الحاضرين من العمال من مهانة وإذلال وإرهاب كان أقسي مما يمكن أن يتعرض له أسري الحرب في جيش مهزوم ومستسلم بدون قيد مما جعل المنتصر يعاملهم أسوأ من معاملة العبيد (خميس والبقري يستحقان إعادة المحاكمة- مطابع الأمل للطباعة والنشر ص52).
إن أحداث كفر الدوار الدامية درس في مناهج قهر الشعوب. فقد كانت النية مبيتة لإظهار العين الحمرا بعد عشرين يوما من انقلاب الضباط. يؤكد هذا أن المحاكمة تمت في يومين وأن الأغلبية الساحقة منهم لم يكن معهم من يدافع عنهم وأن بعض وكلاء النيابة كان يحقق مع مائة عامل في اليوم الواحد في تهم عقوبتها الإعدام وبعد أن وافقت المحكمة علي أن يكون الصحفي موسي صبري محاميا عن مصطفي خميس واتهامه له بالشيوعية فإن مرافعته لو وضعت في الاعتبار لصدر الحكم بالبراءة وليس الإعدام ولكن الحكم كان معدا سلفا (المصدر السابق ص47) وبعد أن أدانت منظمة حدتو العمال وأيدت الضباط اعترفت بموقفها الخاطئ إزاء حركة الضباط وقالت في بيان لها: إننا لم نحشد ونعبئ قوي العمال والشعب بدرجة كافية لإيقاف المحاكمة العسكرية الإجرامية للعمال وإنقاذ خميس البقري ورفاقهما الأبطال (د. رفعت السعيد- منظمات اليسار المصري- ص113).
ورغم أن طه سعد عثمان وعبدالمنعم الغزالي يطالبان برد الاعتبار لضحايا المذبحة, فإنهما يصران علي أن المحرضين علي الإضراب هم كبار الرأسماليين الذين من مصلحتهم القضاء علي (الثورة) الوليدة وللوقيعة بين العمال والضباط. إن هذا الكلام تنفيه الوقائع التالية: لماذا تم عقاب المنفذ (العمال) ولم يتم عقاب المحرضين؟ وهي حقيقة اعترف بها طه سعد نفسه الذي كتب استطاع المجرمون الحقيقيون أن يفلتوا حتي من مجرد البحث عنهم (ص35), وكذلك ما معني البيان الذي أصدره قائد عام القوات المسلحة يوم 16 أغسطس وفيه تحذير للعمال؟ ولماذا كانت حملة التفتيش القاسية التي قام بها نحو مائة جندي علي مساكن العمال وعلي مسكن مصطفي خميس بالذات؟ ولماذا استمرت مطاردة المباحث للعمال بعد صدور الحكم؟ (طه عثمان ص40, 45) وما معني أن يكتب محمد نجيب في مذكراته أنه بعد أن صدق علي الحكم بالإعدام لقد أثقل الحزن قلبي ولكن لأنه كان يلعب دوو (الواجهة) فقد نفذ قرار مجلس (الثورة) الصادر بإجماع الآراء؟ (مذكرات البغدادي ج1 ص69) ولماذا يتم إعدام عاملين, بينما اختلفت المعاملة مع عدلي لملوم (الإقطاعي) والذي أظهر معارضته للضباط صراحة, وهاجم هو وأفراد من عائلته قسم البوليس وأطلقوا عليه أعيرة نارية؟ وأثناء المحاكمة كان هو وأمه يسبان قادة (الثورة) والفلاحين. وكتب محمود نجيب امتطي عدلي لملوم جواده ومعه 35 رجلا وحوطوا الفلاحين وأخذوا يطلقون النار في الهواء علي طريقة رعاة البقر (كنت رئيسا لمصر- المكتب المصري الحديث- عام 84 ص173) ورغم ذلك صدر الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة الذي انتهي إلي الإفراج الصحي؟ المشهد إذن ينطق بالحقيقة المسكوت عنها منذ ثورة يوليو 52: العداء السافر للعمال المسالمين والانحياز الواضح لـ(الإقطاعيين) الذين زعم الضباط أنهم جاؤوا ليخلصوا الشعب من سيطرتهم.
ولماذا وافق الضباط علي انضمام عبدالمنعم أمين إلي حركتهم يوم 22 يوليو رغم اتصالاته بالسفارة الأمريكية واقتناعه بما تروجه الدوائر الأمريكية في مصر عن الخطر الشيوعي وضرورة التصدي له بكل الوسائل ولماذا يكون هو بالذات الذي رأس المجلس العسكري لمحاكمة عمال كفر الدوار؟ وذكر المؤرخ العمالي أمين عز الدين أن عبدالمنعم أمين لعب دورا في حملة الترويج الأمريكية حول الخطر الشيوعي في مصر لماذا تم اتهام خميس والبقري بالشيوعية؟ وما مغزي هذا الاتهام عند ربطه بالدعاية الأمريكية عن الخطر الشيوعي؟ الإجابة ذكرها أمين عز الدين الذي قال: وجدت المخابرات الأمريكية وعملاؤها في أحداث كفر الدوار فرصتهم لكي يضاعفوا الترويج عن الخطر الشيوعي في مصر. وراحوا يقنعون نفرا من قادة حركة الجيش من بينهم عبدالمنعم أمين (روزاليوسف 27, 31/ 7/ 87) وما مغزي ما ذكره محمد نجيب الذي قال: لبيت دعوة إلي منزل البكباشي عبدالمنعم أمين. وكان حاضرا معنا جيفرسون كافري وأربعة من رجال السفارة الأمريكية علمت فيما بعد أن اثنين منهم من رجال المخابرات الأمريكية وكان معي عبدالناصر وزكريا محيي الدين. وفي لقاء آخر قال جيفرسون: إن حكومته تخشي تسلل الشيوعية إلي مصر وعرض معاونة أجهزة المخابرات الأمريكية. وكتب طه عثمان: وهكذا يتأكد دور المخابرات الأمريكية في الأحداث بالتقارير التي أحاطت قادة حركة الجيش عن شيوعية مصطفي خميس وقادة العمال في كفر الدوار والتخويف من تحركات العمال في مناطق أخري مثل شبرا الخيمة والمحلة الكبري (ص10). وذكر أيضا أن ما حدث في كفر الدوار كان عربونا للأمريكان في محاربة الشيوعية (ص47) وما مغزي ما ذكره طاهر عبدالحكيم لم يكن قد مر علي (ثورة) يوليو 52 أكثر من شهرين حينما سيق إلي السجن الحربي أعضاء اللجنة التحضيرية لاتحاد عمال مصر في سبتمبر 52 علي أثر العدوان الوحشي علي عمال كفر الدوار. وقد مورس التعذيب عليهم لأنهم احتجوا علي إعدام خميس والبقري ولإثنائهم عن المضي في تكوين الاتحاد وأضاف: إن النظام الناصري كان يستخدم الفلكة والكرباج لتأديب معارضيه, ففي عام 53 ألقي القبض علي حوالي 40 نقابيا قدموا عريضة يطالبون فيها بإصدار قانون للتأمين ضد البطالة. وما مغزي أن يقول البكباشي عاطف نصار وهو يتلو الحكم العسكري إن مصطفي خميس كان يحارب الله ورسوله فحق عليه القتل؟ وما علاقة ذلك بموقف الإخوان المسلمين الذين اتهموا عمال كفر الدوار بالخيانة؟ (طه سعد ص28) وإذا كانت أحداث كفر الدوار مؤامرة دبرها الرأسماليون كما يزعم الناصريون, فلماذا تم اختفاء ملف التحقيق في تلك الأحداث بعد أن قرأه أحد وكلاء وزارة العمل الذي كان متحمسا لعرضه علي مكتب العمل الدولي؟ ولماذا أحيطت أقوال مصطفي خميس بسرية تامة ولم يعلم عنها شئ؟ وما مغزي اختفاء الرسالتين المرسلتين لمصطفي خميس إحداهما من لندن والأخري من الأرجنتين قبل إعدامه؟ وعلق طه عثمان إنه حتي الآن لا أحد يعرف شيئا عن محتوي الخطابين. ولا شك أنهما كانا في صالح مصطفي خميس وإلا كانت كل الأجهزة بما فيها الصحافة قد فضحت ما فيهما بتضخيم كبير (ص55, 56) ولماذا قال السادات يوم 14/ 8/ 52 في نقابة المعلمين أنه سوف يعلق المشانق في شبرا الخيمة علي أبواب المصانع إذا حدث أي تحرك من العمال؟ وما مغزي نصيحة أستاذ القانون د. الطماوي لضباط يوليو لقد أعدمتم اثنين من العمال فسكت العمال جميعا. ويحتاج الأمر إلي إعدام اثنين من الطلاب كي يصمت الجميع؟ (مجرد ذكريات- د. رفعت السعيد ص116). إنني أرجو من منظمات حقوق الإنسان التفكير في إقامة محاكمة شعبية ترد الاعتبار لضحايا مذبحة دنشواي/ كفر الدوار التي ارتكبها ضباط يوليو 52 بعد عشرين يوما من استيلائهم علي الحكم.