##نقطة التحول## مصطلح يستعمل منذ قرون لوصف ظاهرة تاريخية وسياسية, ويقصد به تحول سلسلة من الأنشطة البشرية والظروف القائمة, بشكل لا رجعة فيه, من عصر إلي عصر. والواقع أن قلة قليلة من الناس تشعر بأنها دخلت عصرا جديدا, اللهم إلا إذا كان العالم بالطبع قد خرج لتوه من حرب مدمرة مثل الحروب النابوليونية أو الحرب العالمية الثانية.
ولكن مثل هذه التحولات التاريخية الفجائية ليست هي موضوع هذا المقال, وإنما التراكم البطيء لقوي التغيير, وهي قوي خفية بالأساس والتي لا يمكن التنبؤ بها دائما, التي ستتحول عاجلا أو آجلا من عصر إلي آخر.
موضوع ##نقط التحول## كان يطفو علي السطح كثيرا خلال نقاش أسبوعي أشرف عليه مع ثمانية طلبة في جامعة ##يل## خلال هذا الفصل الدراسي.
لم يكن القصد في الأصل التركيز علي هذه المشكلة, ولكنها فرضت نفسها بقوة أثناء المناقشات. والكتاب الأول الذي قرأناه كان كتاب ##جان هويزينجا## الكلاسيكي ##تراجع العصور الوسطي##, وهو عبارة عن نظرة رثائية إلي نهاية فترة دامت قرونا في التاريخ الغربي. ثم انهمكنا بعد ذلك في قراءة كتب حول زحف أوربا نحو الخارج (كتاب كارلو تشيبولا ##أسلحة وأشرعة وامبراطوريات: الابتكارات التكنولوجية والمراحل الأولي للتوسع الأوربي, (1400-1700), والإصلاح الديني العنيف في إنجلترا (كتاب إيمون دافي ##إزالة مذابح الكنائس##).
وعندما نظرنا إلي هذه الكتب معا, أدركنا أننا كنا ننظر إلي نقطة تحول كبيرة. غير أن لا أحد ممن كانوا علي قيد الحياة في عام 1480 كان سيعرف عالم 1530 – أي بعد خمسين عاما – عالم عرف ظهور دول جديدة, وتفكك بلاد المسيحية, والتوسع الأوربي إلي آسيا والأمريكيتين, وثورة الاتصال التي بدأها ##جوتنبرج##. وربما كان هذا أعظم نقطة تحول تاريخية علي الإطلاق, علي الأقل في الغرب.
وهناك أمثلة أخري بالطبع. فمن كان يعيش في انجلترا في عام 1750, قبل انتشار استعمال المحرك البخاري, كان سيصاب بالدهشة عندما يري تطبيقه بعد خمسين عاما أثناء الثورة الصناعية. وأحيانا تكون لبعض التحولات من عصر إلي عصر آخر دورة حياة أقصر, مثلما وقع في تلك الفترة ما بين 1919 و.1939 فوقتئذ, كانت الديموقراطية تنحل وكان الاقتصاد يتدهور, ولكن من كان بوسعه أن يستشعر أن ذلك سيفضي إلي حرب ومذابح جماعية؟
ومثلما يقول المؤرخ الدبلوماسي العظيم في جامعة كامبريدج, ##زارا شتاينر## متسائلا, ##متي عرف الناس أنهم لم يعودوا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولي, ولكنهم في الفترة المؤدية إلي الحرب العالمية الثانية؟##. الجواب هو أن قلة قليلة من الناس كانت تستشعر ذلك, وأن الكثيرين لم يتوصلوا إلي الحقيقة الجديدة إلا لاحقا: أنهم كانوا في عصر جديد.
ولكن ماذا عن اليوم؟ العديد من مراسلي الصحف وخبراء التكنولوجيا يشيرون بحماس إلي ثورتنا المتواصلة في مجال الاتصال (الهاتف النقال, وجهاز آيباد, إلخ.), وإلي تأثيراتها علي الدول والشعوب, وعلي السلطات التقليدية وحركات التحرر الجديدة. والواقع أن الدليل علي هذا الرأي واضح عبر كل منطقة الشرق الأوسط (علي سبيل المثال), وحتي في حركة ##احتلوا وول ستريت## الأليفة جدا, وإن كان المرء يتساءل حول ما إن كان أي من متنبئي التكنولوجيا العالية الذين يقولون إن عصرا جديدا في شئون العالم قد حل, اهتموا بدراسة تأثيرات طابعة ##جوتنبرج##, أو خطابات ##فرانكلين روزفيلت## الإذاعية إلي عشرات الملايين من الأمريكيين في عقد الثلاثينيات المخيفة وأواخر الأربعينيات.
كل عصر إذن يصبح مفتتنا بثوراته التكنولوجية الخاصة به, ولذلك فإنني سأركز علي شيء مختلف نوعا ما, ألا وهو مؤشرات التغيير التي تشير إلي أننا نقترب من, أو ربما نكون قد عبرنا إلي بعض نقط التحول التاريخية في عالم الاقتصاد والسياسة.
التحول الأول هو التراجع المضطرد للدولار الأمريكي باعتباره عملة الاحتياط الوحيدة أو المهيمنة في العالم. فقد ولت الأيام التي كانت فيها 85 في المئة أو أكثر من احتياطيات العملة الدولية بالدولار; صحيح أن الإحصائيات تتقلب بحدة في الوقت الراهن, ولكن الرقم اليوم قريب من 60 في المئة. فرغم مشاكل أوروبا الاقتصادية وحتي الصين, فإنه لم يعد من الخيال تخيل عالم من ثلاث عملات احتياط كبيرة هي: الدولار الأمريكي واليورو الأوربي واليوان الصيني, مع بعض العملات الأصغر مثل الجنيه البريطاني والفرنك السويسري والين الياباني. وعليه, فإن الاقتصادي أو المستشار المالي الذي لا يعترف بأن الزمن قد بدأ يتغير لن يسدي خدمة جيدة لنفسه ولزبائنه, وذلك لأن الفكرة التبسيطية القائلة بأن الناس سيلجأون إلي الدولار الأمريكي باعتباره ##ملاذا آمنا## أصبحت محل تشكيك بسبب مديونية البلاد الثقيلة والسريالية لمقرضين أجانب. ثم هل يؤدي عالم يتميز بعدد من عملات الاحتياط إلي قدر أكبر أو أقل من الاستقرار المالي؟
التحول الثاني هو تآكل المشروع الأوربي وشلله, وأقصد بذلك حلم ##جون موني## و##روبرت شومان## بوحدة الدول- الأمم في أوربا عبر اندماج تجاري ومالي أولا, ثم عبر التزامات جدية ولا رجعة فيها تجاه قارة موحدة سياسيا. والواقع أن المؤسسات اللازمة لتحقيق هذا الحلم (البرلمان الأوربي, والمفوضية الأوربية, ومحكمة العدل الأوربية) قائمة منذ سنوات, ولكن الإرادة السياسية لنفخ روح حقيقية فيها قد رحلت, وأضعفت بسبب حقيقة أن السياسات المالية المختلفة جدا لا تنسجم مع عملة أوربية مشتركة.
وبعبارة أوضح, فإن ألمانيا واليونان, بسجلاتهما المالية المنفصلة والمختلفة, لا تستطيعان السير معا نحو ولايات متحدة أوربية; ولكن لا أحد علي ما يبدو لديه جواب علي هذه المفارقة, عدا محاولة إخفاء المشاكل بواسطة مزيد من سندات ##اليورو## وقروض صندوق النقد الدولي.
بعبارة أخري, إن الأوربيين ليس لديهم الوقت ولا الجهد ولا الموارد للتركيز علي أشياء غير مشاكلهم. وهذا يعني أن ثمة قلة قليلة جدا من المراقبين عبر القارة الذين درسوا ما يمكن أن يكون ثالث أكبر تحول في عصرنا, ونعني به سباق التسلح الكبير الذي يحدث في معظم أجزاء شرق آسيا وجنوب آسيا. ففي وقت أصبحت فيه الجيوش الأوروبية أشبه بقوات درك محلية, تعمل البلدان الآسيوية حاليا علي تطوير قوات بحرية في المياه العميقة, وبناء قواعد عسكرية جديدة, وامتلاك طائرات حربية أكثر تطورا, واختبار صواريخ ذات مدي طويل. وأي نقاش يتم, فإنه يركز علي تطوير الصين لقدراتها العسكرية, مع إغفال لحقيقة أن اليابان وكوريا الجنوبية وإندونيسيا والهند, بل وحتي أستراليا, تحذوا حذوها. وقد طرحت هذا السؤال في مقال سابق, ولكنني لم أتلق جوابا كافيا: فما هو هذا الشيء الذي تخشاه الدول الآسيوية بشأن مستقبل العالم وتغفل عنه الحكومات الأوربية؟ إذا دفع تباطؤ النمو الاقتصادي, والأضرار البيئية, والنسيج الاجتماعي المعتل في الصين, زعماءها المقبلين إلي استعراض العضلات في الخارج (في الوقت الراهن من العدل القول إن زعماءها حذرون إلي حد ما), فإن جيرانها يخططون لرد صارم علي ذلك. وهكذا, يمكن القول إن آسيا تتقدم إلي وسط الساحة في وقت تتراجع فيه أوربا إلي الخلف. وعليه, ألن يعتبر المؤرخون المقبلون هذه الظاهرة أيضا نقطة تحول مهمة في الشؤون الدولية أيضا؟
التحول الرابع هو للأسف الضعف والتداعي المستمر والبطيء للأمم المتحدة, وبخاصة أهم جهاز فيها: مجلس الأمن الدولي. فقد تمت صياغة ميثاق الأمم المتحدة بعناية من أجل مساعدة الأسرة الدولية علي أن تنعم بالسلام والرخاء بعد ويلات 1937-1945; ولكن الميثاق نفسه كان عبارة عن خطر مدروس: ذلك أنه علي الرغم من أن محرري الميثاق كانوا يدركون أن القوي العظمي لعام 1945 ينبغي أن تمنح دورا كبيرا (مثل الفيتو, ومقعد دائم في مجلس الأمن الدولي), إلا أنهم كانوا يأملون مع ذلك أن تعمل هذه الحكومات الخمس معا من أجل تحقيق المثل العليا للهيئة الدولية.
ولكن الحرب الباردة قضت علي مثل هذه الآمال, ثم أحياها انهيار الاتحاد السوفييتي, ولكنها اليوم أخذت تتلاشي من جديد بسبب سوء استعمال سلطة ##الفيتو##. فعندما تستعمل الصين وروسيا ##الفيتو## ضد أي تدابير تروم منع نظام الأسد من قتل مواطنيه السوريين, وعندما تستعمل الولايات المتحدة ##الفيتو## ضد أي قرار يروم وقف تقدم إسرائيل إلي الأراضي الفلسطينية, تصبح المنظمة الدولية بلا دور ويصبح وجودها مثل عدمها. ولكن يبدو أن موسكو وبكين وواشنطن تحب الأمر علي هذا النحو.
ولكن, ألا يشير تراجع أهمية الدولار الأمريكي, وفشل الأحلام الأوربية, وسباق التسلح في آسيا, وشلل مجلس الأمن الدولي متي تم التلويح بـ##الفيتو##, حين تؤخذ كل هذه العوامل معا في عين الاعتبار, إلي أننا نسير نحو المجهول؟
أستاذ التاريخ بجامعة يل
تريبيون ميديا سيرفيزيس