لا يمر يوم دون أن يقوم أحد مصادر الرأي بمدح التحول الديموقراطي في تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية [الحزب]. وتتمثل الحجة بأن تركيا قد أصبحت أخيرا ديموقراطية حقيقية في ظل حزب العدالة والتنمية حيث نجح الحزب بإجبار الجيش بصورة جريئة علي البقاء في ثكناته وقام بتشجيع الجماهير علي حساب النخب العلمانية.
ومنذ أن وصل الحزب إلي السلطة عام 2002, أصبحت السياسة التركية مدنية. فالجيش الذي كان ذات مرة يتمتع بنفوذ في أنقرة قد أصبح الآن علي دكة المتفرجين — إن الحزب الذي استمر بلا هوادة في ادعاءاته بوجود محاولات انقلاب عسكري من قبل تنظيم ##الآرغاناكون##, قد ضمن أخيرا خضوع الجيش لسلطته بصورة تامة. وقد أشار العديد من الناس أيضا بأن نتائج الاستفتاء الذي جري حول ,التعديلات] الدستورية في 12 سبتمبر — التي أعطت حزب العدالة والتنمية الحق في تعيين غالبية القضاة في المحكمة العليا في تركيا بدون عملية تصديق — تمثل خطوة أخري باتجاه الديموقراطية في تركيا. وإذا ننحي الأماني جانبا, لم تؤد عملية تمدين تركيا إلي جعلها بالضرورة دولة ذات نظام حكم أكثر ليبرالية وديموقراطية.
وتتميز الديموقراطية الليبرالية بسمتين أساسيتين: السيادة الشعبية التي تظهر من خلال انتخابات شفافة وقانونية — الشرط الديموقراطي — والحماية غير المشروطة والمتكافئة لحقوق سياسية وقانونية واقتصادية معينة — أي الشرط الليبرالي. فعلي سبيل المثال, باستطاعة بلد تلبية هذين الشرطين (الولايات المتحدة), أو الشرط الديموقراطي وليس الليبرالي (روسيا تحت حكم بوتين) أو الشرط الليبرالي دون الديموقراطي (بريطانيا, حوالي أوائل القرن التاسع عشر) أو عدم الوفاء بأي من الشرطين (كوريا الشمالية).
إن تنفيذ إرادة الأغلبية هو أمر مرغوب فيه كغاية ديموقراطية خالصة, لكن ليس عندما تكون هذه الأغلبية محرومة من حقوقها الليبرالية. وفي الواقع, عندما يمجد معظم الناس قيم ##الديموقراطية##, فإن الإطار المضمون للحريات هو الأمر الذي عادة ما يحتكمون إليه. وببساطة, إن تأطير تركيا ضمن خطاب ##النخبة مقابل الشعب## و##التحول الديمقراطي## يؤدي بالتالي إلي تجنب المسألة حول ما إذا كان قد تم حقا الوفاء بالشرط الليبرالي للديموقراطية أم لا.
وتظهر المؤشرات المنشورة حول مجموعة متنوعة من القضايا, بدءا من حريات وسائل الإعلام والإنترنت إلي المساواة بين الجنسين, أن معدل التحول الليبرالي في تركيا لم يواكب التحول الديموقراطي المتزايد في البلاد. وعلي الرغم من أنه قد حدث تحسن ملحوظ في مثل تلك المؤشرات حتي عام 2005 — وهو العام الذي بدأت فيه المفاوضات من أجل انضمام تركيا إلي الاتحاد الأوروبي والتي توقفت في نفس الوقت تقريبا — إلا أنه حصل ركود وتدهور ملحوظ منذ ذلك الحين. ووفقا لـ ##المنتدي الاقتصادي العالمي##, أظهر مؤشر قياس المساواة بين الجنسين بأن تركيا قد هبطت من المرتبة 105 من بين 128 بلدا في عام 2006 إلي المرتبة 121 بعد عام واحد فقط. وقد سجلت انخفاضات مشابهة من قبل مؤشرات ##فريدوم هاوس## لقياس حرية الإعلام. ومن الواضح أن المزيد من الديموقراطية — في حد ذاتها وبنفسها — لا تؤدي إلي قيام ديمقراطية ليبرالية أكثر حرية.
إن تصريحات زعيم حزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان التي تهدد الشركات العلمانية بشكل ضمني بـ ##المحو## إذا ما رفضت اتخاذ موقف بشأن الاستفتاء الدستوري الأخير, إنما توضح هذه النقطة الأخيرة بصورة جيدة. وهو الحال بالنسبة لتصريحاته الأخيرة التي وصفت أولئك المنتقدين لحزمة [التعديلات] الدستورية الجديدة (42% من المصوتين علي الاستفتاء في 12 سبتمبر) بأنهم ##مناصرو الانقلاب## وهي تهمة خطيرة نظرا لأن حزب العدالة والتنمية يلاحق بنشاط ##مدبري الانقلاب## المزعومين.
ثم إن الافتراض بأن حزب العدالة والتنمية يقود الانتقال من ##نخبة## علمانية سادت حصريا لمدة طويلة إلي جماهير متدينة مؤيدة للديموقراطية ومتجهة أخيرا لليبرالية, هو محض افتراء بشكل سافر. وفي الحقيقة إن الترادف الذي كان يوما ما دقيقا بين مصطلحات مثل ##النخبة## ##العلمانية## و##الكمالية## — وهي انعكاس لحقائق كانت موجودة مع بداية الجمهورية التركية — قد انتهي عهده منذ مدة طويلة. واليوم, إن علمانيي تركيا هم ليسوا بالضرورة نخبة كما أن النخبة التركية ليست بالضرورة علمانية.
وعلي سبيل المثال, إن أولئك الذين يتبنون العلمانية لم يعودوا يمثلون جزءا صغيرا من الشعب التركي, حيث تظهر الدراسات أن أغلبية نسبية من الأتراك تؤيد المؤسسات والقيم التي كان ينظر إليها تقليديا بأنها ملاذا للنخب العلمانية مثل الجيش ورفض تطبيق الشريعة الإسلامية.
والأهم من ذلك, إن النخب التركية لم تعد تقتصر علي أولئك الذين يعترفون علنا بعلمانيتهم. فعلي سبيل المثال, [إذا] نلقي نظرة قريبة علي العناصر الرئيسية العاملة في التوسع الاقتصادي الذي حدث مؤخرا في تركيا, سنجد أنها قد أتت من خلفيات محافظة ومتدينة, وكانت بالكاد تحقق بعض الأرباح قبل مجيء حزب العدالة والتنمية إلي السلطة. بيد, إنها تشارك الآن قادة الحزب في رحلاتهم الجوية من أجل عقد صفقات تجارية حرة في أراضي بعيدة وتعلن عن عوائد تصل إلي مليارات الدولارات.
والأكثر من ذلك, إن حزب العدالة والتنمية التي تعود جذوره إلي حزب الرفاه الإسلامي يمثل ذروة النخبة الإسلامية السياسية والثقافية الجديدة. واليوم يوجد في تركيا مليارديرات من الإسلاميين, فضلا عن وجود وسائل إعلام إسلامية, ومراكز أبحاث, وجامعات, وشبكات تلفزيون, ومصادر رأي, وعلماء إسلاميون. وبعبارة أخري تتمتع تركيا بنخبة إسلاميين ناضجة تماما. وعلاوة علي ذلك, يشغل الآن الأفراد المرتبطون ماليا وفكريا بـ حزب العدالة والتنمية, مناصب مرموقة في الجامعات ووسائل الإعلام التي تديرها الدولة وكذلك في الشركات الكبري المملوكة للدولة مثل شركة ##الخطوط الجوية التركية##.
ولنعيد النظر الآن في حزمة الإصلاح الدستورية التي تلقت الكثير من المدح والتي يزعم أنها موالية للديموقراطية. هناك بالتأكيد فائدة من التشدق بلغة قانونية كلامية عند الحديث عن الأعراف الديموقراطية مثل المساواة بين الجنسين — وهو أمر يثير السخرية إلي حد ما, نظرا لانخفاض عدد النساء في المناصب التنفيذية في الحكومة تحت حكم حزب العدالة والتنمية. ومع ذلك سيكون الإصلاح الجوهري الوحيد الذي قام به الحزب هو زيادة عدد القضاة الذين يجلسون في ##المحكمة الدستورية## وإحكام سيطرة الحزب علي تعيينهم. إن ذلك سيمكن الحزب من توسيع شبكته الممتدة بالفعل, والمكونة من النخبة المعينة بطريقة استراتيجية, بحيث تصل إلي أعلي مواقع السلطة القضائية — فهل هذا هو التحول الديموقراطي؟
إذا نظرنا عن كثب, سنجد أن الإسلاميين هم نخبة تركيا, وللأسف الشديد لم تصبح البلاد تحت وصايتهم دولة ليبرالية ديموقراطية بصورة أفضل.
حريت ديلي نيوز