إنها جمعية إسلامية تركية تلك التي نظمت القافلة البحرية نحو غزة. اسمها, المؤسسة الخيرية من أجل حقوق الانسان والحريات والانقاذ والاغاثة, مما لا يشي بهويتها الحقيقية. صحيح ان عددا من الجمعيات الأوربية المناصرة للفلسطينيبن اشتركت معها; ومنها الجمعية الفرنسية لجنة المساعدة والانقاذ للفلسطينيين, وهي مع 50 جمعية اسلامية اخري, منها المؤسسة التركية, في تحالف ائتلاف الخير بقيادة الشيخ الوسطي يوسف القرضاوي. ولكن الجمعية التركية, المعروفة في بلادها بالأحرف اللاتينية (IHH), هي التي قادت العملية. القليل المعروف عنها, أنها بالإضافة إلي اسلاميتها وتأييدها لـحماس واتهامها, عام 1990 , بتسهيل تمرير أسلحة للمنظمات الإسلامية المسلحة في البوسنة والشيشان, فانها تحظي بالتأييد والدعم من حزب العدالة والتنمية الحاكم الآن في تركيا.
اذن المعني بالموضوع سياسيا هو الدولة التركية, السياسة الرسمية للدولة التركية. وهي سياسة بدأت تتغير منذ تولي حزب العدالة والتنمية زمام الدولة وتوجهاتها السياسية الكبري. ولعل أهم ما طرأ علي هذه السياسة منذ هذا التولي هو تصور الدولة لعلاقتها بالعالمين العربي والإسلامي, بعدما رفضتها أوربا الموحدة. صحيح أن وزير خارجيتها أحمد داوود أوغلو وضع الخطوط العريضة لهذا التوجه الجديد بعبارته التي أصبحت شهيرة صفر مشاكل مع المحيط: أي إنهاء, أو نشر الانطباع بإنهاء العداوات مع الجيران, اليونان, أرمينيا, الاكراد, سوريا, ولكنها في المقابل كسرت عقودا من الصداقة الاستراتيجية مع اسرائيل. وملامح هذه النهاية لم تظهر فجأة: مسلسل تلفزيوني من هنا يبين جنودا اسرائيليين يقتلون بدم بارد أطفالا فلسطينيين, خطابات ساخنة من هناك, ولعنات رئيس وزرائها أردوغان علي شيمون بيريز أثناء قصف غزة, ثم طلب السفير التركي اعتذارا من اسرائيل عن سوء استقباله… والأكيد ان مؤشرات صغيرة أخري خرجت من الداخل التركي لم نتابعها, كلها صبت في تنامي مشاعر وسياسات لا تخطب ود صديق قديم. صيغة صفر مشاكل اعتمدتها تركيا من أجل تمتين خاصراتها جنوبا وشمالا وشرقا تمهيدا للتوغل أبعد وإشعال أول مشكلة, هي في العمق تعبير عن فائض قوة تركي لم تكن الارض الاوروبية صالحة لتلقيه, فاتجه نحو الشرق الاوسط, وقضيته الضعيفة, فلسطين, رغم كل الانتصارات الالهية, أو بسببها ربما.
ما الذي جعل هذا الحقل المشتعل مؤاتيا للقوة التركية الصاعدة؟ إنها عزوة تركيا وقوتها ودمائها السياسية التي تجددت بالانتخابات, وشرعيتها الشعبية, وذلك بالرغم من القيود التي تضعها المؤسسة العسكرية العلمانية في وجه الحزب الحاكم وتردعه عن الذهاب بإسلاميته الي ما دون الفصل بين الدين والدولة. فالحزب الحاكم اسلامي معتدل, صحيح, ولكنه يدعم حماس ويؤازر, كما شاهدنا, جمعيات تركية غير حكومية لها صلات اسلامية غير معتدلة. وهو, بالرغم من تنكره الرسمي لذلك, فان كل سياسته, الثقافية خصوصا, تضعه في طليعة المدغدغين للعثمانية الجديدة, بكل ما تنطوي عليه من أحقية الهيمنة علي المحيط الواسع, بـصفر مشاكل أو… مشكلة واحدة كبيرة.
والذي يضاعف من قوة تركيا هو الضعف الذي لحق بالولايات المتحدة, نتيجة تورطها بحربين, واستيعاب رئيسها الجديد لهذا الوهن الأقل جدة, ودعوته الي عالم متعدد الاطراف, بل مخاطبة ود تركيا لإقامة شراكة نموذجية معها. وأيضا, ضعف الذين حتي وقت قريب كانا اللاعبين الاساسيين في ملعب المشكلة: اسرائيل اولا, التي تلقت ضربة قوية من ايران في حرب تموز 2006, وزادت من هواجسها الامنية, ما استنزف مخيلتها وجعلها لقمة سائغة لكل من يحاول إخافتها. ففقدت نخبتها السياسية ذاك المزيج من النداوة والابداع والحيوية علي حد قول احد أدبائها الكبار, دافيد جروسمان, الذي يضيف انه بعد الانقضاض الأحمق للكوماندوس الاسرائيلي علي المتضامنين في باخرة مافي مرمرة, دخلت اسرائيل الآن في طور الانحطاط.
إيران ثانيا, اللاعب الآخر, التي أضعفت اسرائيل, ولكنها باتت هي أيضا أكثر ضعفا: عصيانها علي المجتمع الدولي, العقوبات الدولية, تنامي توجهها الامني واهتزاز شرعيتها اثر انتخابات يونية من العام الفائت. إيران المجنونة أيضا بالقوة العسكرية, وقد سخرت توجهاتها الاقليمية بالتسليح, قد حرمها الاتراك من المبادرة, تحاول الدخول معهم شريكا في الرد علي الاسرائيليين بفرق الحرس الثوري لحماية قوافلها التي قررت, مثل الغيورين الآخرين, إرسالها الي غزة, نصرة لأهلها…
اللاعبان متعبان, يتقاتلان, فيما سلطات أصحاب القضية الأساسيين مصابة بثقل دمائهم وركودها, مشغولون بأنفسهم, بصراعات الحصص والمواقع والمغانم. اللاعبان متعبان, ولكن أصحاب القضية في سبات عميق من المراوحة والفوضي… ولكن أيضا مبرمجون علي ردود فعل, من غير فعل واحد, الا اذا كان بقيادة ايران, واليوم تركيا.
هكذا دشنت تركيا دخولها الي المحيط الشرق أوسطي بشعار سوف يتبعه العالم, ويعبيء من أجله جماهير غفيرة ومتطوعين ومتبرعين وأقلاما وأصوات: فك الحصار عن غزة!. طبعا المعركة لن ينقصها التعقيدات, ولا الكر والفر. لكنها معركة جديدة أدخلتنا في طور آخر من أطوار القضية, سوف يكون لها صولات وجولات. هكذا يتفاعل مع الحدث أحد الكتاب العرب الكبار, فينشر في عدد من الصحف العربية: أمامنا الآن فرصة نادرة لكسر حصار غزة ومحاسبة قادة اسرائيل.
وهكذا تفاعل معظمنا: من النوافل استنكار البربرية الاسرائيلية, ومخالفتها لأبسط القوانين الدولية والإنسانية, ولكن أولي ردود أفعالنا وأكثرها انتشارا هو ذاك السيل من الكلام عن جرائم اسرائيل وكأننا نكتشفها الآن, مقلدين رئيس وزراء تركيا, أردوغان, الذي قد يكون حقا في حال من الاكتشاف لهذه الجرائم, بعد ابتعاد عقود عن الشرق العربي الذي خانه مع البريطانيين. ولكن نحن…؟ يسرنا ان يكتشف رئيس الوزراء التركي ذلك, فنفرح للاكتشاف وكأنه اكتشافنا, أو كأننا نحن الذين نورنا عقله بحقيقة اسرائيل وبربريتها.
ثم ذاك الشعور نفسه بالانتصار كلما أمعنت اسرائيل بجرائمها. يعني نرفع اصبعينا بابتهاج. ننتصر لأن اسرائيل أعطت دليلا جديدا علي بربريتها. ننتصر ونغضب طبعا كما يجب ان يغضب أصحاب قضية عادلة. كيف يتعايش الانتصار والغضب في شخص واحد, في جماهير ونخب واحدة؟ أليس الانتصار بذاته باعثا علي الفرح وعلي التخفف من آلام الظلم ومصائبه؟ كلا. الشعور بالانتصار له معني آخر في حالتنا بالذات: ننتصر لأننا اثبتنا أن اسرائيل هي الشر المطلق, الشر الوحيد, الشر الأول والأخير. وبعدما نثبت ذلك, ننطلق الي المرحلة الأخري من التفكير المنطقي, من انه اذا كانت اسرائيل شر مطلق, فمن المحال أن يقوم بيننا وبينها سلام ما. فتعود وترتفع الأصوات والأقلام الشامتة بأصحاب السلام, كم أنهم أغبياء أو عملاء. وتنتفخ الصدور, ويصبح المنتصر والغاضب, منتصرا وغاضبا ليس علي اسرائيل ومنها, بل علي العملاء والأغبياء الذين يريدون اقامة سلام مع دولة الشر المطلق هذه.
صحفي في جريدة مقاومة يستكثر علي دعاة السلام اعتصامهم وتظاهرهم استنكارا للجريمة الاسرائيلية. يقول عنهم ممتعضا: كيف يكون المرء ضد اسرائيل وضد المقاومة؟. دور المستنكر, الثانوي في كل الأحوال, يريد هذا الصحافي الاستحواذ عليه, مستقويا بالانتصار الذي تحقق بوقوع اسرائيل في فخ منطقها الأمني… انظر كيف تثمر الانتصارات الكارتونية! بالتخوين. أنتم ضد المقاومة؟ اذن أنتم مع اسرائيل! أنتم بوقوفكم الاستنكاري هذا إنما تكذبون… معركة جانبية هي, وأبطالها أصحاب دور ثاني, ولكن فيها مغانم محلية وإعلامية لا بأس بها.
أبطال آخرون شاركوا في حفل وحشية اسرائيل: هؤلاء الذين كانوا علي متن الباخرة وعادوا الي بلادهم. الإعلام لهث خلفهم, يعيدون ويزيدون الكلام نفسه عن شجاعتهم في وجه اسرائيل, عن عدم خوفهم, عن صمودهم, عن رفضهم توقيع تعهدات. هؤلاء الابطال, الثانووين أيضا, تصدروا الصورة. فيما غابت تماما صورة اصحاب القضية المباشرين التي تكبد أبطالنا كل هذه الاهوال من أجلهم; أي أهل غزة. أين هم أهل غزة علي الشاشة؟ الإعلام الملتزم غير ملزم بهم. قضية هذا الاعلام هي إبهارنا بأبطال السفينة, الذين انتصروا بتبيان الوحشية الاسرائيلية.
بالمناسبة, عشرة قتلي أتراك يستنفر العالم كله من أجلهم, فيما العشرات الآخرون من الفلسطينيين يسقطون, يصطادون, خارج أوقات المواجهات… علي يد البربرية نفسها. ولا لجان تحقيق دولية, ولا قيام الدنيا وعدم قعودها: أصحاب القضية يقتلون من دون حساب, ولكن مناصري أصحاب القضية, قادتها الجدد, لهم حصانة دولية.
* كاتبة لبنانية