يتضمن هذا الفصل الذي تحت بصدد التأمل فيه اليوم تلميحا إلي نبؤات الأنبياء إشعياء, إرميا, حزقيال وباقي الأنبياء, الذين نددوا بالرعاة الفاشلين, الذين كانوا يتسلطون علي الرعايا ويأكلون خيراتهم ومحاصيلهم ولا يهتمون لأمرهم. فلو تأملنا في قول إشعياء لوجدناه توبيخا قاسيا للرعاة الذين همهم النوم والراحة ولا يقومون بما يصلح ما فسد, فقد نعتهم بالعميان والكلاب الكسالي والخرس إش 56.
أما إرميا فقد ذكر الرعاة الفاشلين,وأنذرهم,من لدن الله: ويل للرعاة الذين يبددون ويشتتون غنمي.., ويتنبأ إرميا عن الراعي الصالح: وأعطكم رعاة حسب قلبي فيرعونكم بعلم وفطنة… (إر3:15). وحزقيال ينذر الرعاة المتكبرين, ويخبر عن تكبرهم وتجبرهم علي المستضعفين,ومحاباتهم للزعماء. ثم تنبأ علي الراعي الحقيقي الذي يرعي فعلا الخراف وبمحبة (حز34:1-31). أما الرب يسوع فقد وبخهم توبيخا عنيفا وأنذرهم بالويلات,ونعتهم بالرعاة العميان (مت23:1-39) فالمسيح هو الراعي الصالح العظيم للخراف.
بعد أن طرد الفريسيون الأعمي,وقالوا عن يسوع بأنه نبي كذاب,وأن من يؤمن به يكون ضالا. عندها راح يسوع يذكر الراعي الحقيقي وكيف يتهم بالرعاية ويوردها أحسن المراعي,ويرعاها بكل عناية,وأنه هو الباب الحق الذي يدخل الحظيرة التي هي الكنيسة والآب هو ربها,والروح القدس هو البواب,الذي يفتح الباب للراعي الصالح والحقيقي. فالرعاة الغير جديرين بالرعاية فينعتهم باللصوص والغرباء. وعليه نري هنا: الراعي والسارق. فالراعي يهتم بالرعية,ويدخل آمنا وبكل جرأة من باب الحظيرة,في حين أن السارق لا يجسر علي الدخول من باب الخراف,لأن الرعاة الحقيقيين يقبضون عليه,فيدخل هؤلاء اللصوص من علي الجدران,أو من أماكن أخري غير الباب. وهؤلاء اللصوص هم الذين يسعون إلي سرقة النفوس البريئة ويبعدونهم عن الصواب والحقيقة كما نري الراعي والغريب. فالراعي الصالح لا يدع اللص يأتي ولا الغريب أن يدخل,فالرعية تسمع صوته وتتبعه في حين أن صوت الغريب يجعلها تهرب. فالسارق إذا جاء,وتعرف إلي الراعي الغريب,فيتفقان معا علي تبديد الرعية وانقسامها. فالراعي الحقيقي يجمع الخراف في الحظيرة,التي هي الكنيسة,ويقف هو علي بابها حارسا لرعيته من الانحراف والانزلاق في مهاوي الضلال,والرب يسوع يأخذ أمثاله من الواقع الذي نعيش فيه,ومن نبؤات الأنبياء عنه هو, له المجد, ويدعم قوله وأمثاله بقسم, والقسم لا يكون إلا بأعظم من المقسم,فنراه يقسم بذاته (عبر6:13-18). لأنه هو الحق والطريق وهو الحياة (يو14:6).
قال يوحنا فم الذهب: إن المراد بقول الرب يسوع. أنا باب الخراف, وهو راعي الخراف, فيكون الكتاب المقدس هو الباب الذي منه نري الرب يسوع: أنا باب الخراف,وهو راعي الخراف,فيكون الكتاب المقدس هو الباب الذي منه نري ما في الداخل. أي من خلال النبؤات عن المسيح,أي أن الميسح دخل بنبؤات الكتاب المقدس إلي حظيرة الخراف وقادها وقال أغسطينوس: إن المسيح هو البواب والراعي والباب,نقلا عن بولس الرسول حين يقول: هو الكل في الكل (1قور12:6 وعبر2:10). لذلك فالمسيح هو البواب والراعي والباب معا. وما من أحد يدخل الكنيسة إلا بسلطانه تعالي.
إن الخراف الحقيقيين يعرفون صوت الراعي, أي تعليمه, فلا يسمعون لصوت الغرباء,أي الذين يحرفون التعليم الصحيح,وما من أحد يستطيع أن يدخل الكنيسة أو السماء إلا به,لأنه هو الله الذي به صار وحدث وخلق كل شئ (قول1:16-17).
عاد الرب يسوع يعلم ويشدد علي مهمة الراعي الحقيقي وأهميته,ويفرق بين الراعي الحقيقي والأجير,الذي جاء ليشتغل راعيا,وهي ليست دعوته,فنراه يهرب عند أول صدمة,ويتهرب من المسئولية,لأن هذا الراعي إنما يطلب خير نفسه ومكسبه ومركزه. أما الرسل والأنبياء فليسوا بإجراء,بل هم رعاة أتوا بأمر المسيح ودخلوا منه إلي حظيرة الراف. أما الراعي الحقيقي,الذي هو المسيح,فيبذل نفسه من أجل الخراف,وهذا ما فعله يسوع,وقال عنه بولس الرسول: أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح الكنيسة, وجاد بنفسه من أجلها (أف5:25).
أما قوله: جميع الذين جاءوا قبلي كانوا لصوصا وسراقا (يو10:8). لا يعني الأنبياء الذين تقدموه وتنبأوا عنه,بل يعني أولئك الذين أقاموا أنفسهم رعاة للشعب,وخالفوا الأنبياء وإرشاداتهم ومواعظهم,وعملوا علي هواهم. لذلك ندد بهم كل من إرميا بقوله: كان شعبي خرافا ضالة,رعاتهم أضلوهم وتاهوا بهم في الجبال, وتاهوا بهم من جبل إلي جبل إلي أكمة ونسوا مربضهم…
يريد الرب أن يجمع إليه جميع الشعوب,لأن دعوته وكهنوته شموليان. ويقول القديس بولس: فقد جعل من الجماعتين جماعة واحدة,وهدم في جسده الحاجز الذي يفصل بينهما,أي العداوة, فجعلهما بالصليب واحدا,وبه قضي علي العداوة.
كان يسوع يتمشي في رواق هيكل سليمان,وما أن رأي اليهود يسوع حتي أحاطوا به,وراحوا يمطرونه بالأسئلة: قل لنا صراحة,إن كنت أنت المسيح؟ وكان هذا السؤال بمثابة فخ قد نصبه الفريسيون والكتبة ورؤساء الكهنة. ويتوقف علي جواب يسوع أمران: الأول: كان اليهود يرون أن المسيح يأتي ملكا ويجلس علي عرش يحيط به الأعوان والجند,ويحشد الجنود ويطرد الرومان من البلاد. وهذا ما دفع بأم ابني زبدي بالطلب إلي يسوع أن يجلس ولديها يعقوب ويوحنا إلي جانبيه في مجده (مت20:20-21) وقد أراد اليهود الغياري أن يخطفوه ويقيموه ملكا (يو6:15).
والثاني: حقد الفريسيين ومن ماشاهم لكي يشكو يسوع إلي السلطة الرومانية لإعدامه. رأي يسوع نفسه في إحراج ليصرح لهم,ليس خوفا من أحد,ولا من السلطة الرومانية,ولكن اليهود خاصة الفريسيين الذين رأوا أن السلطة وزمام الأمور يفلت من أيديهم. راحوا يأتمرون به ليهلكوه,ويستعيدوا سلطتهم.
عندها أعلن يسوع بجواب صريح قائلا: قلت لكم منذ بدء رسالتي من أنا,وتنبأ عني الأنبياء وأنتم سددتم آذانكم وأغلقتم أبواب قلوبكم لئلا تؤمنوا,وأنتم لا تؤمنون (يو5:36). وقد أعلن المسيح عن ذاته مرارا. لذلك راح يسوع يشرح لهم بأنه نفسه المسيح,الله الذي أوحي إلي الآباء منذ بدء الخليقة,وهو الذي كان يوحي إلي موسي وأعطاه الوصايا,وهو الذي رآه إشعياء علي عرش عال في الهيكل (إش6:1-4) ثم راح يوضح لهم بأنه هو والآب واحد أي في جوهر واحد.
ما إن قال يسوع : أنتم لا تؤمنون حتي ولا بالأعمال التي أعملها, والتي عملتها, وهي تشهد لألوهتي, ولا تؤمنون, وسبب عدم إيمانكم هو أنكم لستم من خرافي. حتي حمل اليهود حجارة ليرجموه بها هذا من أعمال اليد الخفية: التآمر والاغتيال عندها قال لهم يسوع: لقد رأيتكم كثيرا من الأعمال والمعجزات التي تشهد لألوهتي,وبأني أتيت بها من عند أبي,فلماذا ترجمونني؟ وكان كلامه توبيخا لليهود لعدم إيمانهم,إذ فهموا من أقواله أنه هو الله. عندها قال له اليهود: لا نرجمك للأعمال التي قمت بها بل لإدعائك الإلوهية,وأنت إنسان ,فإنك بهذا تجدف قال لهم يسوع: جاء في تعليمكم أنا قلت إنكم آلهة وبنو العلي كلكم. إذا كان الله قد قال عن القضاة الذين هم من البشر: آلهة لأنهم يحكمون باسم الله,فكم بالحري الآتي من ذات الله. فلهذا تقولون إني أجدف لأني قلت أنا ابن الله بالجوهر؟ فإن كنتم تدعون القضاة آلهة فكم بالحري أنا الله الذي تجسد وجاء عند تمام ملء الأزمنة متجسدا من امرأة (غلا4:4, وروم 9:5 ويو1:1-14) لكن الفريسيين ومن ماشاهم قديما وحديثا لا يزالون يريدون خنق صوت يسوع الصارخ دائما في كل العالم: توبوا وعودوا إلي فإني وديع ومتواضع القلب. حملي خفيف ونيري هين (مت11:28-30). أرادوا قتله وتآمروا علي ذلك. وكم من مرة أرادوا ذلك,لأنه فضح كل ما في قلوبهم ونواياهم واليوم نري هؤلاء الآتين بثياب الحملان يتسكعون لدي من يرون لهم فيه مأرب… ولكن سرعان ما يكتشفهم ثم يتحداهم يسوع, له المجد, بقوله: إن كنت لا أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي… فآمنوا بالأعمال,عندها تعلموا أن الآب في وأني في الآب (يو10:38-39). قال أغسطينوس: إنك في الله لأن الله يحويك والله فيك لأنك صرت هيكلا بالناسوت,فحق لك أن تقول: من رآني رأي الآب (يو14:8-10) لأن وظيفة العبد الاشتراك مع المخلص,أما خاصة الرب يسوع فالمساواة أي وحدة الجوهر مع الآب والروح القدس.
عندها احتدم غيظ الفريسيين وأتباعهم,قديما وحاضرا,وأرادوا قتله,فتركهم يسوع وعاد إلي عبر الأردن,حيث كان يوحنا يعمد,وأقام هناك. فجاء إليه كثيرون وهم يقولون: لم يعمل يوحنا آية واحدة,ولكن ما قاله يوحنا عن هذا الرجل كان حقا. وآمن به كثيرون (يو10:37-42).