يحتوي إنجيل هذا الصباح الذي نحن بصدد التأمل فيه في هذا الأحد المبارك حدثين مرتبطين: دعوة لاوي من جهة وتناول يسوع الطعام مع العشارين والخطأة من جهة أخري, الأمر الذي سبب خلافا بين يسوع والكتبة والفريسيين. فأمامه وأمام التلاميذ الذين يشكلون أول جماعة مسيحية مؤمنة, وأمام الجمع الذي يشهد علي أقوال يسوع وأفعاله, والذي يتساءل بصدق عن هوية يسوع, نجد الآن الكتبة والفريسيين. ويبرز في هذه المرحلة المتقدمة من كشف هوية يسوع, عنصر جديد هو المقاومة التي يثيرها يسوع في نفوس الذين يرفضون السير في طريقه, كونهم متقوقعين في مفاهيمهم الخاصة, وبالتالي عاجزين عن موافقة هويتهم علي هويته كمعلم. في نفس هؤلاء الأشخاص حلت الخصومة مكان الاندهاش وتطورت إلي أن وصلت إلي العداء المكشوف. ودعوة متي تؤكد لنا أن الخطيئة لا تمنع دعوة يسوع له, كما أن الطعام مع الخطأة يبين موقف يسوع ممن يتبعونه, ويظهر صبر الله في مرافقة البشر, وهو ينتظر إرتدادا حقيقيا وناضجا. إن ما يسمح بالجلوس مع يسوع علي المائدة ذاتها ليس كون الإنسان بارا, بل اعترافه بخطيئته وبقدرة الله علي الغفران. فمن لا يعترف, في أعماق نفسه, بخطيئته وحاجته إلي لقاء يسوع وقبول مغفرته المجانية يبقي نفسه مغلقا. أمام عمل يسوع ويستثني نفسه من المكان (البيت) الذي تعاش فيه علاقة الاخوة الحقيقية والصداقة الحميمة ثم رأي وهو سائر لاوي بن حلفي جالسا في بيت الجباية, فقال له: اتبعني. فقام فتبعه.
إن مرور يسوع ببني البشر هو مرور الله الذي يرافق كل إنسان في أمور حياته الملموسة. بيد إنها لم تعد ظهورات مخفية علي غرار العهد القديم, في النار, ومن خلال الغيوم أو الظهورات الفلكية وإنما من خلال إنسانية يسوع: هذا ما رآه لاوي. إن نظرة يسوع هي نظرة محبة تخترق كيان الشخص وتصل إلي فرادته وإلي موطن السر الداخلي الذي يحييه, نظرة تعبر عن اختيار الله, نظرة تخرج الإنسان من الضياع في الجمع, وتضعه كشخص محدد ومعين وكموضوع محبة الله. وفي الحالة التي نحن بصدد التأمل فيها, فإن النظرة تتركز علي لاوي العشار ابن حلفي, ويتم التعبير عن هذه النظرة بكلمة اتبعني.
يجيب لاوي بسرعة واستعدادية تامة (فقام فتبعه). وتختلف هذه الدعوة عن دعوة الرسل الأربعة, حيث لم يتم أي ذكر للرسالة. ولا ما الذي يجب تركه في سبيل اتباع المسيح. ففي حالة لاوي. يقول مرقس ببساطة: (قام). تهدف قصة دعوة لاوي إلي إعطائنا مثالا حيا لاتباع المسيح, بطريقة قد تنطبق علي غير لاوي ممن يريدون السير وراء يسوع. وبعد قصة الدعوة, نجد أنفسنا أمام مشهد جديد.
يتم هذا المشهد الجديد في بيت لاوي, لا علي شاطئ البحر كالعادة. ومن المحتمل أن مرقس يريد أن يشير إلي المعني الكنسي (الجماعي) في إتباع المسيح, من خلال ذكر بيت لاوي. يقابل السيد المسيح في البيت أشخاصا جددا, خطأة وعشارين, وهم كثيرون ويتبعونه. وهذا معناه أن دعوة الله لا تبقي معزولة أو وحيدة, إنما تتسع لتشمل الكثيرين. ولكي نفهم بعمق عمل يسوع هذا علينا أن نتعرف عن قرب علي الأشخاص الذين شاركوه الوليمة في بيت متي.
فئتي الخطأة والعشارين, تدلان علي جماعات محددة من الأشخاص كان اليهود يستثنوهم من الحياة الدينية والاجتماعية, إلا أن موقف السيد المسيح لا يتوافق مع رأي الكتبة والفريسيين. فهو يقابلهم ويجالسهم, الأمر الذي يجعله هو أيضا بنظرهم غير طاهر. ليس هذا الأمر في العرف اليهودي مجرد علامة تدل علي الصداقة والمحبة. لأن من يبارك المائدة ويترأسها يعطي الجالسين بركة الله وسلامه. جميع سامعي السيد المسيح, وهم بلا شك يحفظون كلمة الله الموجودة في العهد القديم عن ظهر قلب, يعلمون أن الله الذي هو الراعي الصالح لإسرائيل, يعتبر أن كل بني إسرائيل شعبه ويعتبر نفسه إلههم جميعا. وبالتالي فإن موقف السيد المسيح هو تجسيد لهذه الرحمة, حيث يعتبر استقبال الخطأة علامة تنبئ عن قدوم زمن الملكوت. يريد السيد المسيح إذن من خلال عمله هذا أن يعطي البركة والخلاص والمطالحة إلي الخطأة والعشارين. من هنا نفهم جيدا الموقف العدائي الذي يتبناه الكتبة والفريسيون تجاه موقف المسيح المتحدي, لا سيما وإنهم كانوا يعتبرون أنفسهم المفسرين الوحيدين للشريعة.
يضع مرقس علي الساحة الكتبة والفريسيين, وهم الذين يعتبرون من المحافظين علي الشريعة والتعليم التقليدي. فهم بحجة تعلقهم بالشريعة والتقليد يبتعدون عن كل ما هو نجس وغير طاهر, وخاصة عن هؤلاء الذين لا يحفظون الوصايا. هم أيضا ينظرون ولكن نظرتهم تختلف عن نظرة يسوع: نظرة تنتقد وتهدم ما يحاول يسوع أن يجمعه من خلال المشاركة في الوليمة. ويعبرون عن ذلك بسؤال وعتاب واضح للتلاميذ. إلا أن كلمتهم لا تنجح في هدم ما قام به السيد المسيح. فعمل المسيح المحسوس المشاركة في الوليمة أكثر فعالية.
لا نستطيع إذن أن نكتفي بقراءة سطحية لما قام به يسوع. فعمل السيد المسيح ليس تعبيرا عن عاطفة عابرة بقدر ما هو التزام بعمل معين يتطلب منا إحداث بعض التغيير الجذري في شخصيتنا. فقد استقبل يسوع الخطأة عندما أصبح قريبا منهم, وهكذا يكتشف ويكشف للمؤمنين كيف يكون استقبال الله لكل إنسان. يبين يسوع من خلال هذا العمل المعني الحقيقي العميق للشريعة اليهودية. ويظهر خطأ تفكير الفريسيين في تفسير الشريعة, فالذي يريد اتباع يسوع يستطيع أن يتعرف علي حقيقة مسيرته إن عاش روح الانفتاح والاستقبال الذي عاشه يسوع المسيح. وهذا معناه أن نتأثر ونشعر بانفتاح علي من يعيش في حالة الخطيئة. ليس المقصود هنا هو أن نقلد حياة الخطأة. بل أن نفهم كيف أن الانفتاح علي الخطأة يتطلب ليونة داخلية تساعد علي إقامة علاقة صحيحة معهم. المطلوب هو الشهادة لهويتنا كأشخاص تصالحوا مع الله. قادرون علي عيش عطية المصالحة هذه مع كل الأخوة البشرية دون أحكام علي الآخرين.
روماني أمين اليسوعي
[email protected]