يرتبط خبر التجارب بخبر العماد ارتباطا وثيقا في إنجيل القديس لوقا.من جهة أولي هو الروح الذي نزل من السماء, بشكل حمامة, يقتاد يسوع إلي البرية, إلي المحنة التي تدخل في مخطط الله. ومن جهة ثانية, بدأت التجربتان الأولي والثانية بهذه الكلمات:##إن كنت ابن الله##, فكأنها تتجاوب مع صوت الآب من السماء:##أنت ابني الحبيب##. وهكذا تظهر قدرة الابن الإلهي واضحة هنا كما في العماد. يبدو من أول وهلة الصراع بين يسوع وإبليس وكأنه جدالا بين اختصاصيين في الكتب المقدسة. وهكذا يصبح كلام الله العنصر الأساسي في هذا الحدث وله الكلمة الأخيرة.
إن نص تثنية الاشتراع (يعلمك أن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده, بل بكل ما يخرج من فم الرب). ( تث8: 3) جاع يسوع كما جاع هذا الشعب,ولكنه أراد أن يحفظ وصايا أبيه. فالرد الكتابي لا يلمح إلي وجهتين من الحياة:الخبز للجسد وكلمة الله للنفس أو للقلب. بل إلي حياة الإنسان الملموسة التي لا يمكنها ككل أن تكتفي بالخبز فقط.##حينئذ أخذه إبليس إلي المدينة المقدسة##.إن الهجمة الشيطانية الثانية (والهجمة الثالثة) تجعلنا نظن أن يسوع ##انتقل## من مكان إلي آخر. نحن لسنا أمام انتقال بالجسد, بل بالمخيلة.هكذا أفهمنا الإنجيلي جدية المحنة ##الداخلية##. ومهما يكن من أمر, فالخبر لا يشدد علي سلطان إبليس بأن يختطف محاوريه من مكان إلي آخر. يكفي أن يستفيد من حضور يسوع في أحد أعياد السنة وسط الجموع الغفيرة, ليجعله يحلم باقتياد هؤلاء الناس إلي الله بأسهل الطرق وأسرعها. هل يا تري يقبل يسوع بما يقدمه إليه إبليس من وسائل؟. ##المدينة المقدسة##. هي المدينة التي تخص الله حصرا. هي مكرسة له بشكل كامل بسبب الهيكل الموجود فيها. بدا الشيطان هنا أقوي مما كان عليه في الهجمة الأولي, لأنه وقف مع محاوره علي مستوي الإيمان.استند إلي الكتب المقدسة (مكتوب: يوصي ملائكته) وأورد نص المزمور (91: 11- 12) هنا نقدم ذات الملاحظة التي سبق لنا وقدمناها خلال الحديث عن الهجمة الأولي: أنشد هذا المزمور عناية الرب الخاصة جدا بشعبه وأتقيائه. إنه ملجأ وحصن لجميع الذين يثقون به. أنشد يهوه كالمدافع عن المسيح الموعود به.
اختار إبليس استشهاده أفضل اختيار, لأن يسوع أرسل إلي هذا الشعب الصغير من المؤمنين الذين عبرت هذه المزامير عن ثقتهم بالله في الضيق.قرأ إبليس مز 91 قراءة حرفية. فأجابه يسوع بأسلوب نستطيع أن نسقيه اليوم تفسيرا لاهوتيا: الثقة بالله أمر صالح, ولكن يجب أن لا تخفي هذه الثقة نية خفية (أو لاواعية) بأن يستخدم الإنسان قدرة الله من أجل طموحاته الدينية. هل عرض الشيطان علي يسوع أن يصنع معجزة أمام جموع الهيكل لكي يدل علي نفسه أنه المسيح المنتصر؟ ربما. ومن خلال ذلك, هو يحاول أن يبعد يسوع عن الطاعة البنوية للآب, ويدفعه إلي أن يستقل في سلطته كابن عن سلطة الآب.
فأخذه إبليس إلي جبل عال (4: 8- 11) وتركت الهجمة الشيطانية الثالثة المجال الكتابي لتكشف الهدف الأخير الذي اتخذه الشيطان من امتحان يسوع: يجعله يبتعد عن خدمة الله الواحد, خدمة الآب وحده, من أجل عبادة الشيطان.
وللمرة الثالثة, رفض يسوع الشيطان مستندا إلي نص من الكتاب المقدس.
تجارب يسوع هي تجارب كل إنسان. فالإنسان يريد أن يسيطر علي المادة, يريد أن يمتلك خيرات هذه الدنيا ويوجهها من أجل راحته وسعادته. أما يحق للمسيح أن يتمتع بهذا السلطان؟ أيجب عليه أن يخضع لقساوة نواميس الحياة البشرية مع حاجاتها ومحدوديتها؟ لقد ظل يسوع أمينا لرسالته. لم يتخل عن ملكوت السماء من أجل ملكوت الأرض. لم يترك إرادة الآب ليخضع لإرادة إبليس. هو لا يسجد إلا لله, ومنه يقبل حياته, كما يقبل موته وقيامته. لهذا, فهو يرضي منذ البداية أن يكون إنسانا بكل ما في الإنسان من ضعف ومحدودية. يرضي أن يمر في الجوع والعطش. في الحر والتعب, في الألم والموت. هكذا يكون إنسانا حقيقيا فيرفع الإنسان, كل إنسان, إلي مستوي البنوة الإلهية.
[email protected]