حفظ لنا التاريخ عبر العصور المختلفة التي مرت علي مصر سجلات مرصعة بالذهب تحكي لنا بطولات ومواقف قيادات دينية وسياسية واجتماعية شرفت الساحة المصرية بمواقف يشهد لها العالم, وينحني أمامها التاريخ, كما كان للكنيسة القبطية وقيادتها أدوار مختلفة علي مر العصور, مدافعة عن مصريتها وحريتها وأرضها وشئونها الداخلية والخارجية, بل كانت دائما تعتبر تلك الأحداث الطارئة والظروف الصعبة التي تظهر فجأة علي الساحة ماهي إلا زوبعة في فنجان, فكل مصر جسد واحد, ولا يمكن بأي صورة من الصور أن تتجزأ أو تتفكك وحدتها, فهكذا عاشت مصر تواجه في كل زمان كل من يصوب نحوها هدف التمرد والتشكيك والتفكك بكل قوة وحكمة, كما فعل قداسة البابا بطرس الجاولي, وسوف تظل مصر شامخة إلي نهاية الأيام في بركة كحسب الوعد الإلهيمبارك شعبي مصر.
ولد البابا بطرس في قرية الجاولي التابعة لمركز منفلوط بمحافظة أسيوط بصعيد مصر, تربي علي الفضيلة ومحبة الله, ثم انطلق إلي دير الأنبا أنطونيوس وعاش ناسكا محبا للعلم والمعرفة وسامة البابا قسا مقيما بالدير باسم الأب مرقوريوس. حضر إلي مصر عام(1808م) ورسم مطرانا عاما علي الكرازة المرقسية باسم الأنبا ثاؤفيلس, وكان مكان إقامته مع البابا مرقس(108) في الدار البطريركية معاونا له, وبعد نياحة البابا مرقس(108) بثلاثة أيام اختير للبطريركية باسم البابا بطرس السابع, وكان ذلك في الكنيسة المرقسية الكبري بالأزبكية بمصر في عهد الخديوي محمد علي باشا في يوم 16كيهك عام1526ش(1809م). عرفه الجميع وهو يتحلي بالحكمة والوداعة والمعاملة الحسنة لكل المصريين لذلك كان محبوبا اهتم بأن يكون ناسكا صامتا مهتما بالعلم لذلك أنشأ مكتبة ثقافية عالية المستوي بها كثير من مؤلفاته, مثل نوايف الأقباط ومشاهيرهم ومجموعة من المواعظ والرسائل ومقالات في المجادلات, كما كان بسيطا في معيشته ومحبا للفقراء.
وطنية البابا بطرس الجاولي
كان يحل مشاكل الأقباط بهدوء وحكمة فائقة, جعلت كل قيادات الدولة في عهده تلجا إليه في حل المشاكل الطائفية وغيرها بما عرف عنه من هدوء وحكمة تجعل الأمور تتحول من الشر إلي الخير, لذلك أصبح في عهده للأقباط مراكز مرموقة في جهاز الدولة, فالحكمة تبني, وأبناء الحكمة يسيرون في النور. وفي يوم من الأيام تعرض أقباط قرية الجاولي, مسقط رأسه, لمتاعب شديدة للغاية, وبحكمة أرسل يستدعي كبار القرية الأقباط وطلب منهم تقديم200فدان من أفضل أراضيهم هدية لشريف باشا الذي بدوره عين بإيعاز من البابا المعلم بشاي مليوشي من أسيوط كمسئول عن هذه الأرض, بعد أن قدم له الباشا 36 فدانا من المائتين ليعيش منها, وبهذا استراح أقباط القرية من المتاعب.
البابا ضد التدخل الأجنبي في مصر
ومن أهم مواقفه ووطنيته العميقة, إذ كان محمد علي يتقدم في فتوحاته وغزواته خشيت روسيا لئلا يحول ذلك دون تحقيق مآربها في الشرق وفي المملكة العثمانية, فأرسلت أحد أمرائها ليلتقي ببابا الإسكندرية, رئيس أكبر كنيسة مسيحية في الشرق الأوسط ليطلب حماية قيصر روسيا. من خلال خبرة الأمير الذي عاش وسط الكنيسة الروسية, بما عرف عنها من فخامة مظاهر أساقفتها حسب أنه سيدخل قصرا عظيما ويلتقي بحاشية البابا, ويسلك ببروتوكول معين, لكنه فوجئ بأنه يقف أمام إنسان بسيط بجلبات من الصوف الخشن يظهر عليه القدم, وقد تنأثرت حوله بعض الكراسي القديمة.لم يصدق الأمير نفسه حتي أجابه البابا أنه بطريرك الأقباط. أمام هذه البساطة انحني يلثم يديه ويطلب بركته وصار يسأله عن سر هذه الحياة البسيطة, فأجابه أنه يليق بالأسقف أن يتمثل بالسيد المسيح سيده الذي افتقر لأجل الخطاة. عاد ليسأله عن حال الكنيسة القبطية, فأجابه أنها بخير ما دام الله يرعاها, عندئذ أظهر الأمير أنه متضايق لما تعانيه الكنيسة القبطية من متاعب. سأله البابا في بساطة:هل ملككم يحيا إلي الأبد؟ أجابه الأمير##لا يا سيد الأب بل يموت كما يموت سائر البشر. عندئذ قال البابا:إذن أنتم تعيشون تحت رعاية ملك يموت, وأما نحن فنعيش تحت رعاية ملك لا يموت وهو الله. لم يعرف بماذا يجيب الأمير سوي أن ينحني أمام البابا يطلب بركته. وقد تأثر جدا به حتي عندما سأله محمد علي باشا عن رأيه في مصر, قال:لم تدهشني عظمة الأهرام ولا ارتفاع المسلات وكتابتها, ولم يهزني كل ما في هذا القطر من العجائب, بل أثر في نفسي زيارتي للرجل التقي بطريرك الأقباط. روي الأمير لمحمد علي باشا الحوار الذي دار بينه وبين البابا, فانطلق محمد علي باشا إلي البابا بفرح يشكره علي وطنيته العميقة, قائلا له:لقد رفعت اليوم شأنك وشأن بلادك, فليكن لكم مقام محمد علي بمصر. أما هو فأجابه أنه لا شكر لمن قام بواجب يلتزم به نحو بلاده.
البابا بطرس يصلي من أجل مصر ونيلها
حدث جفاف ولم يفض نهر النيل, فطلب منه الوالي أن يصلي من أجل مياه النهر, فأخذ بعض الأساقفة والكهنة والشعب, ورفع القرابين علي ساحل النيل, وبعد نهاية الصلاة ألقي بالمياه التي غسلت بها أواني المذبح في النيل, فارتفع للحال منسوبه حتي بلغ موضع الصلاة, وأسرعوا برفع خيمة الصلاة.
علاقة البابا بطرس بإبراهيم باشا
نور القيامة كانت علاقة إبراهيم باشا بالبابا بطرس يسودها الحب والصداقة والاحترام المتبادل, وعندما احتل إبراهيم باشا بلاد القدس وشي البعض(غالبا من اليهود) أن ما يدعيه المسيحيون بأن النور يظهر من القبر المقدس هو غش وخداع. وإذ كان إبراهيم باشا يثق في البابا بطرس, أرسل إليه يستدعيه من مصر, وقد استقبله بحفاوة مع قواده وحاشيته, ثم أخبره عن سبب استدعائه له طالبا منه أن يظهر النور علي يديه لا علي يدي بطريرك الروم. وإذ شعر إبراهيم باشا أن هذا يسبب نزاعا وانشقاقا خاصة وأن بطريرك الروم جاء يستقبل البابا بطرس بمحبة كبيرة, طلب أن يكون الاثنان معا, وكان هو معهما, وقد وقف الجند في الخارج ليتأكدوا من حقيقة الأمر. صام بطريرك الروم وبطريرك الأقباط بروح المحبة ثلاثة أيام كالعادة, ودخلوا القبر يصلون ومعهم الباشا, وإذ بالنور يشع, فبهر الباشا وارتمي علي صدر البابا, وإذ كان الكثيرون خاصة الفقراء في الخارج بسبب الازدحام الشديد, ظهر النور في نفس الوقت خلال أحد الأعمدة ليراه الكل, ولا يزال العمود المشقوق إلي يومنا هذا. هذا الخادث أضاف إلي صداقة الباشا للبابا حبا أكثر وتكريما.
عزيزي القارئ: هذا قليل من كثير عن علاقة الكنيسة وقيادتها بالدولة, علاقة حب تجمع بين كل المصريين الذين تظللهم سماء واحدة ويشربون من ماء راح, وتلوح عليهم شمس واحدة, فيجب أن يعتصموا بالإيمان بالإله الواحد الذي يعبده ويعرفه كل مؤمن لتحيا مصر وتموت الفتن.
المصادر: الكتاب المقدس- السنكسار-قاموس آباء الكنيسة القبطية-مواقع مختلفة علي الإنترنت.
[email protected]