مرت أمنا مصر الحبيبة بعصور مختلفة وتحت قيادات دينية وسياسية توافدت عليها من الخارج منهم من أخلص ودبر تدبيرا حسنا ومنهم من كان ضعيفا وأخفق… ولكن الجميع مروا وذهبوا وتركوا لنا تاريخا… أما مصر فصوتها مع الحق لم يكل وإنما دائم الصياح منتظر الأفضل والأحسن… حقا إنها كباقي الشعوب لها آمال في أولادها تسبح بهم في بحر العالم لتصل بهم إلي شاطئ الأمان والحرية. وأود يا عزيزي القارئ في هذه السطور البسيطة أن أطرح أمامك موقفا يشهد التاريخ له أن مصر للمصريين مهما عبث العابثون فالنصرة للحق مادام الحق موجودا والتاريخ الذي يسطر بقلمه الذهبي لمصر تاريخا مضيئا عبر العصور يقول ذلك.
بعد نياحة البابا مينا الثاني بطريرك الكنيسة القبطية وفي نهاية القرن العاشر الميلادي أرشد الرب أساقفة مصر وأراخنة الكنيسة من شمالها إلي جنوبها إلي اختيار رجل تاجر يدعي إبراهيم السرياني علماني من سورية مقيم في مصر ومشهود له بالتقوي وعمل الخير والاستقامة والمعرفة وله علاقة طيبة بالخليفة ورجال الدولة ليكون البطريرك الثاني والستين في تعداد البطاركة فتمت رسامته في السابع من شهر طوبة عام 691 ش الموافق الثالث من يناير عام 975 م. ونتيجة لعلاقاته الطيبة بالمعز لدين الله الفاطمي وروحانيته رفيعة المستوي وخدمته وتعبه من أجل الخدمة انتشر في عهده السلام والرخاء والتشييد والتعمير مما جعل أبو الحسن علي بن محمد المعروف (بالشابشتي) أمين مكتبة العزيز بالله وأبو بكر محمد الخالدي وأبو عثمان سعد الخالدي وأبو الفرج الأصفهاني يكتبون كتبا عن هذه الحقبة التاريخية موضحين مدي الراحة والسلام الاجتماعي والتعامل الوطني والإنساني بين أبناء مصر المسيحيين والمسلمين في عهد الخليفة المعز والعزيز بالله. ولكن في ظل هذه الظروف الطيبة والهادئة التي تمر بها البلاد استيقظ عدو الخير في شخص رجل مقرب إلي المعز يهودي الأصل كان دائما يسعي للوشاية والوقيعة بين الوالي والمسيحيين ومن خلال فكره كان يقيم دوائر متعددة للجدال الديني بين نسيجي الأمة الواحد حتي وصل في ذات يوم إلي المعز بفكرة ظاهرها منفعة وباطنها فتنة بين الوالي والبابا البطريرك.
الفتنة والتهديد
خرج الوزير اليهودي الذي أسلم ظاهريا وليس إيمانا منه ومعه صديقه اليهودي موسي إلي الوالي بفكرة اجتماع يجمع بين المسلمين والمسيحيين في حضرته والوزير وبحضور البابا البطريرك فذهب البابا إلي الخليفة ومعه الأسقف العالم ساويرس بن المقفع وحدثت مناقشة بين الوزير والأسقف فاز فيها الأسقف علي الوزير واقتنع الخليفة بأن النصاري علي حق وأخفق الوزير في حيلته الأولي ونتيجة لذلك دبر الوزير فتنته بقوله للخليفة إن عند النصاري آية في كتابهم تقول: إن من عنده إيمان مثل حبة الخردل يقول للجبل انتقل واسقط في البحر فينتقل ونحن بحاجة إلي نقل الجبل الشرقي للقاهرة فإن كان إيمانهم صحيحا فلينقلوا لنا هذا الجبل وإن لم يفعلوا هذا فيبطل كتابهم ودينهم وهم كذبة فوافق الخليفة علي كلامه واستدعي البابا الأنبا إبرآم بن زرعة وعرض عليه نقل الجبل الشرقي للقاهرة وقال له كما ذكر كتاب تاريخ البطاركة لساويرس بن المقفع أسقف الأشمونين ماذا تقول في هذا الكلام هو في كتابكم أم لا قال الأب البطريرك نعم هو فيه قال له فهوذا أنتم نصاري ألوف وربوات في البلاد وأريد أن تحضر لي واحدا منهم تظهر هذه الآية علي يديه وأنت يا مقدمهم يجب أن يكون فيك هذا الفعل وإلا أفنيتكم بالسيف حينئذ بهت البابا وطلب البابا من الخليفة أن يمهله ثلاثة أيام وعاد إلي مقره بالكنيسة المعلقة بمصر القديمة وخرج إلي الشعب المسيحي ونادي بصلاة وصوم لمدةالأيام الثلاثة وفي نهايتها ظهرت السيدة العذراء للبابا وعرفته بالرجل البسيط سمعان الدباغ وقالت له إنه سينقل له الجبل وبالفعل ذهب البابا إلي الخليفة وحدد معه موعد نقل الجبل وخرج نصاري مصر وفي مقدمتهم البابا الأنبا إبرآم بن زرعة ومعه الرجل البسيط سمعان الدباغ ومعهم الخليفة والوزير يعقوب بن كلس وموسي اليهودي صديقه وكل شعب القاهرة مسلمين ومسيحيين ورفع البابا الصلاة ومعه النصاري صارخين يارب ارحم وصرخ سمعان أمام الجبل ساجدا لله قائلا: سير يا مبروك وفي كل سجدة كان الجبل يرتفع وتظهر الشمس من تحته حتي إن الجميع صاحوا بصيحات إلي الله شاكرين عمله فيقول ساويرس بن المقفع: صاح الملك والمسلمون الله أكبر لا إله غيرك وهنا اتحد الإيمان بالتوحيد وأعلن الخليفة إيمانه واعتزازه بإله النصاري وإيمانهم بعد أن شاهد الجبل الشرقي يعلو عن الأرض ويتقطم إلي ثلاث قطع مما جعل أهل مصر يطلقون عليه بعد ذلك اسم الجبل المقطم بدل الجبل الشرقي تذكارا لهذه المعجزة التي قضت علي فتنة اليهود بين المسلمين والمسيحيين بل جعلت المحبة تتواصل والسلام يعم بعد معرفة حقيقة كل منهما للآخر.
البابا وتوطيد العلاقة بين أبناء الوطن
بعد معجزة نقل الجبل الشرقي في نهاية القرن العاشر الميلادي وفي عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي التي أثارت إعجاب الخليفة بالبابا البطريرك والمسيحية وإيمانه بها أغدق علي النصاري بالعطايا والهبات إلا أن البابا لم يقبل أموالا منه بل طلب عمارة الكنائس وترميمها وكان منها بناء سور لدير القديس العظيم مرقوريوس أبي سيفين في مصر القديمة وفي أثناء حفر أساسات السور تقدم أحد المتطرفين كما يروي ساويرس بن المقفع في تاريخه أنه رمي نفسه في مكان حفر الأساس وقال أريد اليوم أن أدفن نفسي تحت هذا الاساس ولا يمكن أن يبني وإن كان فليبني علي جسدي وأخبر البابا المعز بذلك فحضر بنفسه مع جيشه وأمر بدفن الرجل المتطرف والذي كان يعترض علي بناء سور الدير ويبني عليه وحينئذ تجلت صورة التسامح في أبرع أشكالها وطلب البابا من الخليفة أن يسامح هذا المتطرف الذي أراد عدو الخير أن يستخدمه ضد الكنيسة وبعد لجاجة من البابا أمام الخليفة من أجل هذا المتطرف سمح الخليفة بخروجه من الحفرة فرمي البابا نفسه عليه وأخرجه بيده بعد أن رمي عليه العمال الحجارة ومواد البناء وعاد مرة أخري حيا بيد البابا الذي كان نموذجا حيا وعمليا لقمة التسامح والمحبة, والذي خدم الكنيسة مدة ثلاث سنوات وأحد عشر شهرا بكل أمانة وإخلاص وحب متفان من أجل حياة يعم عليها السلام والإخاء في كل ربوع مصر عاصر فيها الخليفة المعز الفاطمي والعزيز بالله الفاطمي ثم تنيح في السادس من شهر كيهك عام 695 ش 3 ديسمبر 978 م.
لقد كانت هذه السطور ما هي إلا شذرات من تاريخ الكنيسة المصرية التي يتوعدها الآن أعداء الله والوطن بالعقاب والتهديد فليبطل فكر الفتن والتهديد أمام المحبة والتسامح ولينم الإيمان بالتعضيد الإلهي لكل مؤمن يحتاج إلي مساعدة فالكتاب المقدس يقول الرب يدافع عنكم وأنتم تصمتون خر 14:14 ولتعش مصر لكل المصريين الأحباء الأوفياء الذين يعرفون قيمة مصر وترابها الحر الذي لا يقبل الفتن ولا الكفر بالإله الواحد الذي نعبده جميعا.
المصادر الكتاب المقدس- سنكسار الكنيسة القبطية- تاريخ الأمة القبطية- تاريخ البطاركة للأنبا ساويرس بن المقفع- الخريدة النفيسة- تاريخ الكنيسة القبطية- ومواقع مختلفة علي الإنترنت.
[email protected]