من بين الصخور العملاقة تخرج رائحة الموت تبعث الخوف في الصدور,تشق كل الحجب وتهتك ستار الفقر والإهمال وربما الفساد أيضا,إنه اليوم الرابع لوقوع كارثة الدويقة,والذي انطلقت فيه وطني لترصد ما وصلت إليه الأمور هناك,انهيار الصخور العملاقة التي تزن ما يقرب من ثلاثة آلاف طن فوق المنازل العشوائية بحضن الجبل,موت أسر بأكملها مدفونة تحت الصخور التي ما زالت المعدات والآلات -بعد أسبوع أثناء مثول الجريدة للطبع- تحاول تحطيمها ورفعها,ويبدو أنها ستحاول طويلا.
ينتشر ضباط الشرطة في كل مكان فوق أسطح المنازل المحيطة بالواقعة وعلي الصخور الساقطة حول المكان داخله وخارجه تواجد أمني كثيف لكن الأهالي المكلومين لا يرون في وجود الأمن ملاذا ولا عونا بل يتحاملون عليهم ويشتبكون معهم ويقذفونهم بالطوب.
علي وجوده الضباط بدا الإعياء والدهشة مما يجري وعلي وجوه الأهالي بدت المحنة واضحة والغضب تجلي في كل سلوكياتهم شاعرين أنهم بشر بلا ثمن وأنهم مواطنون بلا وطن يرعاهم…وجاءت عباراتهم معبرة عن ذلك إحنا مش غاليين علي حد.
يوم في الدويقة
في مشهد مهين منعنا الأمن من دخول المنطقة,حاولنا دون جدوي,التف حولنا عدد من الضباط وقال أحدهم من النهاردة لازم الدخول بتصريح من الداخلية حاولنا إقناعه ولم نفلح,علا صوته وبدأت المناقشة في الاحتداد وعلي أثر ذلك تقدم أحد الشباب المنتظرين وقال لنا: أنا من التليفزيون المصري خدوا الرقم ده يخص الاستعلامات الأمنية بوزارة الداخلية علشان يستخرجوا لكم تصريح.
فعلنا كما أوصي الزميل الإعلامي وجاءنا صوت أحد القيادات بوزارة الداخلية وعبر الهاتف أنتوا كنتم فين من تلات أيام دلوقتي فيه أمراض جوه من الجثث إللي تحت الصخور تابعوا من الفضائيات!! قلنا له مش ممكن وبعدين الأمراض دي ها تصيب الصحفيين وكل الأهالي الموجودة دي ما فيش خوف عليها؟!
صمت العقيد ثم قال كلموني بعد ربع ساعة وتركنا ما يقرب من ساعة ونصف الساعة,كنا خلالها قد تسللنا خلسة أثناء ضجة حضور محافظ القاهرة إلي الموقع بصحبة لجنة مجلس الشعب,وشاهدنا ما لم يخطر ببالنا أبدا…غضبا تمثل في أحجار صغيرة قذف الشباب المحافظ وأعضاء اللجنة بها حتي خرجوا من الموقع تحيط بهم قوة أمنية كبيرة وعلي أقصي اليمين شاب يصرخ: هم دول إللي غاليين أما إحنا ثمننا بلاش. أمسكو بالشاب بعد أن أصيب اثنان من ضباط الشرطة جراء قذف الأهالي لهم بالحجارة.
بدأ الطوب ينهال من فوق أسطح المنازل,خرجنا لاهثين خشية الإصابة فالغضب كالبحر الهائج لا يستطيع أحد احتواءه,لم تمر خمسة دقائق حتي خرج الضباط ممسكين بالشاب الذي صرخ في وجوهنا عندما رأي كاميرا التصوير معنا اعتقلوني يا ناس عشان عايز أهلي إللي تحت الحجارة…بيعتقلونا وإحنا الضحية…اشهدي يا صحافة ظل يصرخ ويبكي إلي أن اختفي عن أعيننا!!
أكملنا المسيرة وعالقة بأذهاننا فكرة واحدة: لماذا يشعر الناس بأنهم رخيصو الثمن رغم أنهم ثروة هذا البلد إذا ما استغلت؟,لماذا يشعرون بالدونية رغم أن الدنيا أجمعها تسخر كل جهودها لخدمة البشر كل البشر وليس نوعا معينا منهم.
استوقفتنا مجموعة سيدات قائلات بلهفة أنتم صحفيين أجبنا نعم, طيب أعملوا معروف وصلوا صوتنا إحنا ليه مش غاليين علي البلد دي…أهالينا وحبايبنا وجيراننا ماتوا تحت الجبل,وإللي مات مات لكن الدور والباقي علينا هيعملوا إيه معانا إحنا مستنيين دورنا لما تقع البيوت علي دماغنا ثم أجهشت بالبكاء,سألناها عن اسمها قال في تردد وردة,فوجئنا بسيدة أخري خلفها تلكمها لكمة قوية في ذراعها منتهرة إياها قولي اسمك الحقيقي هايجري لنا إيه أكثر من إللي حصل أحنت السيدة رأسها وقالت اسمي عواطف السيد.
ممنوع.ممنوع.ممنوع
ما أن أدارت عواطف ظهرها حتي لمحنا أحد رجال الشرطة الذي أصر علي سحب الكارنيهات والبطاقات الشخصية وقال: أنتم مش عارفين أن كده ممنوع وغلط تعملوا أحاديث مع الناس فين التصريح سألناه أي تصريح,كل الصحف بتنشر من أربعة أيام.
رد علينا في حدة ممنوع دلوقتي ممنوع تعالوا لمقابلة اللواء,عندما ذهبنا إلي اللواء المسئول وقلنا له نحن هنا للدخول إلي الجمعيات الأهلية التي تخدم الأهالي ومساعدتهم وليس بوصفنا صحفيين فتركنا وشأننا.
انطلقنا وفي كل خطوة يستوقفنا أحد الضباط فلم نجد سبيلا إلي أداء عملنا سوي الهروب منهم رغم أننا نعلم أنهم يفعلون ذلك خشية تجمع الأهالي الغاضبة حولنا وعدم السيطرة عليهم.
بمساعدة الأهالي استطعنا ارتداء جلابيب بلدي وطرح لنصل إلي أعلي المنطقة الكارثية ونتحدث للأسر المجروحة نفوسا وأجسادا دون أن يتعرض لنا الأمن بعد إحكام الحصار علي الدويقة ومنع الإعلام المستقل من الدخول إليها بل ومنع النائب مصطفي بكري أيضا.
جلسنا في وسطهم,قال أحدهم بقي لنا سنين كل شوية ييجوا يعملوا لنا محضر ويمشوا ياخدوا أسامينا وما يقولوش أي حاجة ثانية,قاطعه آخر لا بيعملوا حاجات ثانية,محاضر وصلات النور إللي إحنا موصلينه بطريقة مش قانونية ومن غير اشتراك,طب إحنا مش لاقيين ما عندناش فلوس وإللي جاي علي أد إللي راح.
قاطعته امرأة في غضب إحنا لما كنا بنتكلم ونقول لهم في الحي شوفوا لنا شقق.كانوا بيقولوا لنا نشوف شقق لمين؟ الحرامية وقطاعين الطرق.إحنا عايزين نعرف مصيرنا إيه وعلي فكرة إحنا ما خترناش نكون حرامية ولا حد بيتولد حرامي لكنه من قلة ولادنا ماتوا تحت الحجارة والباقيين ماتوا في الخيم في الفسطاط من العطش والشمس,أنتم بره عايشين وإحنا محرومين,إحنا تعبانين الحوجة والعوز خلصوا علينا.
الجبل بيقع من شهور
جمال محمد حسن جاء لاهثا معلقا ذراعه في رقبته يقول: أنا كنت تحت الحجارة والأهالي خرجوني أول يوم الحادثة وبنتي اتعملت لها شريحة في الحوض,من شهور بلغنا أن الجبل بتقع منه أجزاء والحي بعت مقاول يكسر ويساوي الجبل لكن ما فيش فايدة.
رائحة الموت
قفز ناصر محمد إلي الحديث أنتم هاتكتبوا إللي هانقوله ولا إللي الحكومة هتقوله,الحكومة بتقول بيوت قليلة وقعت وإحنا بنقول 150 بيت ومئات من الناس مدفونين أحياء تحت الحجارة كلمناهم علي الموبايلات لغاية ما الشحن فصل وما بقيناش عارفين حاجة عنهم أهالينا ضاعوا.
نظرنا إلي بعضنا البعض ولم نجد سوي الصمت يلفنا فباغتنا قائلا: أنتم مش شامين ريحة الموت ولا إيه؟!
سيدة محمد دخلت بحماس إلي الحوار لما رحنا الحي قالوا لنا حاجة غريبة قال إيه لما الجبل يجي يقع عليكم ادخلوا بيوتكم وأقفلوا الباب عليكم ما تخافوش.أي عقل ده إللي يقول كده يا ناس؟! وأشارت بيدها علي رجل بدت علي ملامحه الكارثة وقالت: أدي واحد بنته ماتت تحت الردم.
ذهبنا له وسألناه عن اسمه قال: إيليا يوسف وبنتي ميرنا ماتت تحت الحجارة.وبدأ يبكي بعنف وتخرج دموعه ممتزجة بآهاته ويقول: عارفين لما الجبل هجم علينا خدت العيال في حضني وصدرت له ضهري,وقلت يارب,بعد كده الدنيا ضلمت طلعوني الأهالي بعد الحادثة بساعتين لكن ميرنا ماتت.ماتت ومين يرجعها لي؟! الحكومة واقفة بتتفرج وبتهد الصخور بماكينة واحدة لو اشتغلت ليل نهار مش هاتخلص ولا بعد شهور وإللي ماتوا مالهومش دية.
قاطعته بدرية إبراهيم إحنا إللي كنا بنطلع الناس وأنا كنت بشيل العيال الصغيرة في حجري ولا فيه نور ولا كشافات ودلوقتي كمان ما فيش ميه الجبل لما وقع كسر كل مواسير الميه إللي في المنطقة ومافيش حد عمل لنا حاجة!!
ولملمنا أوراقنا وقررنا الرحيل فسألونا هاتكتبوا عننا بصحيح عن احتياجاتنا الحقيقية قلنا نعم قالت إحداهم هانستني.
كل الكلام بات يصب في اتجاه واحد.البشر أرخص ما يكون في وطننا,وكارثة الدويقة كشفت عن أن الجميع يعملون ولكن لا أحد يملك الفعل.وربما يتساءل بعض المتشبثين بحرفية الأمور ما علاقة كل هذا بالبيئة التي يحصرونها في التلوث,والرد أبسط ما يكون فالإنسان أهم مورد طبيعي في الدنيا ودول العالم تجتهد لتحافظ علي البيئة من أجله ولكننا حتي الآن في مصرنا العزيزة ننكر علي الغالبية العظمي ممن هم تحت خط الفقر والمطحونين في وطننا حقوقهم الطبيعية ويضيعون علي هذا البلد موردا ثريا هو البشر فتفقد المورد ويفقدون الوطن.
عند منطقة الفسطاط حيث الخيام التقينا ببعض الأهالي قالت امرأة منهم مافيش هنا غير 4 دورات مياه 2 رجالي و2 حريمي تفتكري يا أبلة الواحد يستني كام ساعة علشان يدخل الحمام ده إحنا مئات.
لم نلبث هناك طويلا فالشمس والخلاء لا يحتملا تركناهم وذهبنا إلي مستشفي الحسين الجامعي حيث رقد الناجون. منهم من أفاق ومنهم من يفق بعد من غيبوبته أو من صدمته, صوت الأنين ودموع الألم والحسرة لم تدع فرصة للسؤال عن أسماء الطرحي, تحدثنا إليهم بشكل عشوائي لكن جميعهم رفضوا التصوير وقالوا الرمية دي لها حرمة احترمنا رغبتهم قالت فتاة في العشرينيات من عمرها إحنا عشنا عيشة حيوانات وبنموت موتة أقل كمان من كده حتي إللي ماتوا لغاية دلوقتي ماندفنوش وإللي عايشين هناك متهددين بالمرض من الجثث المتعفنة.
ألقت الفتاة بسؤال خطير ماذا عما يمكن أن ينتشر هناك والجثث مازالت تحت الصخور؟ قال المسئولين في وزارة الصحة إن سيارات الوزارة تجوب المكان لرش الكيروسين والملاثيون والفنيك لتطهير المكان وتحذر الناس إخلاء المنطقة عبر مكبرات الصوت خشية انتشار الأوبئة. ولكن الأهالي قابعون بجوار موتاهم.
رأي الجيولوجيين
تركنا أجواء الدويقة لتحمل صرخات سكانها إلي العلماء والمسئولين فالتقينا بالدكتور محمد إبراهيم الخبير الجيولوجي الذي تحدث عن طبيعة التكوينات الصخرية بالمنطقة وقال: لي تحليلان أحدهما علمي وآخر اجتماعي ولنبدأ بالعلمي فالصخور في هذه المنطقة رسوبية تتكون من حجر جيري عليه طبقة من الطفلة,والطفلة هي رمال جافة عندما تتشبع بالمياه ترجع لطبيعتها الرملية فينهار كل ما تكون فوقها,والسبب في وجود المياه إما نشع أو تسرب من الصرف الصحي أو من مصائد المياه وهي تجمعات مائية ناتجة عن الأمطار في أماكن تستقر بها تلك المياه.
لابد من الرجوع للتركيبات الصخرية لمعرفة قدرتها علي تحمل البناء فوقها من عدمه وإعداد الدراسات الوافية عن المنطقة.
أما التحليل الاجتماعي خاص بطبيعة قاطني الدويقة فهم فقراء لم يجدوا مأوي ولا أربعة جدران تحميهم فبنوا بيوتا لهم في حضن الجبل علي الدولة تفهم ذلك فلا أحد يفعل هذا إلا من باب الاحتياج.
قنبلة موقوتة
علي الجانب الآخر صرح مصدر علمي -رفض ذكر اسمه- بأن الخطر مازال قائما علي المنطقة كلها,والهضبة الوسطي ما زالت تحمل خطرا علي السكان لأن أسفلها كهوفا وكتلا صخرية غير متزنة,فالمقطم قنبلة موقوتة,وكذلك كل المناطق الجبلية الأخري التي لا يتم بناؤها تبعا للكود الجبلي,هذا الكود مجموعة من المواصفات التي يجب اتباعها عند البناء علي الجبال ويختلف البناء من جبل لآخر.
أما العميد محيي الصيرفي رئيس العلاقات العامة بالشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي فيقول: المشكلة تكمن في ##الترانشات## التي صنعها الأهالي للصرف العشوائي من المفروض أن يكون الترانش كالقدر الكاتم لكنه نظرا للعشوائية حدثت تسربات متتالية للمياه ووقعت الكارثة لكن توجد حاليا لجنة من المياه والصرف الصحي تقوم بتسليم الأهالي المساكن في الوحدات السكنية المخصصة في أعلي منطقة الدويقة وعددها 2000وحدة للمضارين يحدث التعاقد مباشرة علي إدخال الصرف والمياه علي أن يكون الدفع لاحقا لمن لا يستطيع.
السؤال هنا لماذا لم يتم تسكين هؤلاء الناس من قبل لماذا انتظرنا حتي تقع الكارثة ثم بحثنا عنهم لنعطيهم مساكن؟!!
في ظل هذه الأزمة كان نبيل زكي المتحدث الرسمي باسم حزب التجمع قد حذر من القرار الحكومي المعيب الذي تم بمقتضاة بيع 4 ملايين متر مربع بمنطقة الدويقة ومنشأة ناصر لصالح شركة إعمار الإماراتية متسائلا عن كيفية صرف مياه البحيرات الصناعية التي أعلنت الشركة عن إنشائها متخوفا علي البقية الباقية من الهضبة!!
الدويقة…أين من حقوق الإنسان؟!
تابعت الجمعية المصرية لدعم التطور الديموقراطي والمركز المصري للتنمية والدراسات الديموقراطية كارثة عزبة بخيت بالدويقة التي راح ضحيتها العديد من الضحايا الأبرياء,وطالبت بتطبيق ما نصت عليه المادة (25) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأن لكل إنسان الحق في مستوي من المعيشة كاف للمحافظة علي الصحة والرفاهية له ولأسرته من مسكن وملبس وخدمات طبية واجتماعية لازمة.كما أن له الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز.
وتذكر المادة (6) من الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الحق في الحياة كحق ملازم لكل إنسان وعلي القانون أن يحمي هذا الحق ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفا.
وما ينطبق علي الدويقة ينسحب علي كافة العشوائيات وأحوالها السكنية تحديا وعقبة أساسية في مواجهة التنمية الاجتماعية والثقافية.
وكشف تقرير حديث للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء أن 12مليون مصري يعيشون في العراء بلامأوي,موضحا أن هؤلاء يعيشون في المقابر والعشش والجراجات والمساجد وتحت السلالم,وأشار التقرير إلي أن 1.5مليون مواطن يعيشون بالقاهرة في مقابر البساتين,التونسي,الإمام الشافعي,باب الوزير,الغفير,المجاورين,الإمام الليثي,جبانات عين شمس,الدويقة,منشية ناصر وعزبة أبو حشيش بمنطقة حدائق القبة.
العجب كل العجب أن كارثة السبت الماضي لم تكن الأولي من نوعها حيث تبدو المفاجأة علي المسئولين والأهالي سويا ولكنها لها تاريخ سابق ففي عا 1994 انهارت صخرة محرقة الزرايب وراح ضحيتها 40قتيلا وانهارت عشرات المنازل وفشلت كالعادة قوات الإنقاذ في الدخول لموقع الحادث ثم جاءت الكارثة في عام 1995 في منطقة عزبة بخيت نتج عنها انهيار أجزاء من نفس الصخرة التي سقطت ولكن بدون ضحايا ثم حدث انشطار الجبل إلي نصفين عام 2007 تحت مساكن الحرفيين ولا حياة لمن تنادي لتأتي كارثة السبت الأسود وليست هي الأخيرة ما دامت الأمور تدار بهذا الإهمال من المسئولين وغياب الرقابة علي تلك المناطق العشوائية.