منذ القدم والإنسان يغير من التواريخ ويطلق عليها اسم الأسرة التي تحكم البلاد فنجد الأسرة الأولي والثانية وهكذا إلي نهاية الأسر الفرعونية.وعندما ولد السيد المسيح ووحد العالم قلبا وقالبا أصبح التقويم يسمي بالميلادي نسبة إلي ميلاد السيد المسيح,ولكن عند اضطهاد المسيحية في روما علي يد نيرون في القرن الأول المسيحي وانتهي علي بعد ميل واحد من روما علي يد قسطنطين في القرن الرابع وكان القصد منه إبادة المسيحية,لم يجد المسيحيون الأقباط غير الإمبراطور دقلديانوس أشد الأباطرة بطشا وفتكا في أن يجعلوا عصره هو بداية عصر الاضطهاد وعصر الشهداء لما كان يتمتع به من فنون التعذيب والقتل لعدد هائل وعظيم من الشهداء والقديسين الذين روت دماؤهم كل شبر من أرض مصر حتي أن بعض القري أبيدت بالكامل علي يد سفرائه وولاته.فعيد النيروز ليس يوما عاديا فهو يوم مشهود له في التاريخ يذكرنا بتاريخ الكنيسة القبطية العظيمة وشهدائها الكرام وأمجادها,التي قال عنها السيد المسيح إن أبواب الجحيم لن تقوي عليها,كما يذكرنا بطغيان الولاة الرومان الذين حاربوا المسيحية في كل مكان بشتي أنواع العذابات,ليس حبا فيما يعتقدونه ولكن خوفا علي نفوذهم وسلطانهم الزائل,وكأنهم لم يسمعوا السيد المسيح وهو يقول لهم إن مملكتي ليست من هذا العالم.
نحن اليوم نطلق لفظةعيد النيروزعلي رأس السنة القبطية والتي توارثناها عن أجدادنا الفراعنة,لأن لفظة نيروز مشتقة من الكلمة القبطية (ني-يارؤو) أي الأنهار,وذلك لأن ذاك الوقت من العام هو موعد اكتمال موسم فيضان النيل سبب الحياة في مصر.وبالتالي فهو عيد مباركة الأنهار,ولما دخل اليونانيون مصر أضافوا حرف السي (مثل أنطوني وأنطونيوس) فأصبحت نيروس فظنها العرب نيروز الفارسية التي تعني اليوم الجديد (ني=جديد,روز=يوم) وهو عيد الربيع عند الفرس ومنه جاء الخلط عند العرب.
ومع عصر دقلديانوس احتفظ المصريون بمواقيت وشهور سنينهم التي يعتمد الفلاح عليها في الزراعة مع تغيير تعداد السنين بداية من الصفر لجعله السنة الأولي لحكم دقلديانوس,ومن هنا ارتبط النيروز بعيد الشهداء..حيث كان في تلك الأيام البعيدة يخرج المسيحيون في هذا التوقيت إلي الأماكن التي دفنوا فيها أجساد الشهداء مخبأه لحمايتها وللذكري.
وفي سبيل تكريم هؤلاء الشهداء والقديسين عمد الأقباط المصريون أبناء الفراعنة منذ العصر الأول للشهداء وحتي يومنا هذا لرسم وحفر تاريخ وقصص هؤلاء القديسين بصورة حية في شكل أيقونة مميزة للقديس يمكن من خلالها أن يصل الناس إلي معرفة شخصية صاحب الأيقونة وقصته والاضطهاد الذي قابله وما أنعمت به السماء عليه من أكاليل ومكانة أمام رب القوات دون أن يقرأ ما هو مكتوب عليها.
من أشهر هؤلاء القديسين الشجعان المشهورين في الكنيسة القبطية والذين قدموا أنفسهم وحياتهم من أجل الإيمان برب الجنود مارجرجس,ومارمينا,ومرقوريوس أبو سيفين,كما كان هناك من بين هؤلاء القديسين الذين قدموا أنفسهم ذبيحة حية أمام محبة الله محب البشر في عصر الإمبراطور دقلديانوس,القديس أبسخيرون القلليني الشهيد الذي استطاع الفنان القبطي بكل دقة أن يبرز تفاصيل عذاباته والعديد من المعجزات التي حدثت له شخصيا أو التي تمت بواسطته متشفعا فيها أمام رب الجنود ليساعد أولاده وينقذهم من الضيفات.
كلمة أباسخيرون أو أبسخيرون مشتقة من كلمتين: أبا معناها أب,وسخيرون أسشيروس أو إسكاروس معناها القوي ولد بقلين من محافظة كفر الشيخ,وكان جنديا شجاعا محبوبا,له شهرة واسعة ومكانة بين رفقائه ورؤسائه,من جنود الفرقة التي كانت بأتريب ببنها.
ولهذا نجد أن الفنان القبطي رسم القديس بطل الأيقونة في شكل جندي بحجم كبير يمتطي جوادا وهذا دليل النصرة واضعا علي كتفيه عباءة من اللون القرمزي وهو اللون الملوكي المفضل الذي كان يلبسه الملوك في الماضي,كما أنه يلبس درعه من الذهب ويحيط به اللون الذهبي ليدل علي الملك والعظمة.بينما يتضاءل بجانبه أي شئ آخر فتبدو الأبنية والأشخاص الأشرار خصوصا من قاموا باضطهاده بأحجام صغيرة وكأن الفنان يريد جذب أنظارنا نحو القديس بطل أيقونته ويقول لنا إن كل الآلام التي مر بها وكل من قام بتعذيبه ذهبوا ولم يذكر عنهم التاريخ شيئا وكل مباهج الدنيا وما ضحي به ذلك القديس كان بالفعل نفاية لكي يربح المسيح,كما أنه مالك مع المسيح في مجده رافعا رأسه ممسكا رمحا -وهو من آلات الحرب القديمة عبارة عن عمود طويل به حربة- ليصرع بها الشيطان,كما أن الرمح ينتهي في أعلاه بصليب علامة القوة والنصرة في المسيح..فالفضائل المسيحية هي أسلحة النور والقوة وأنه بالإيمان يقهر عدوه الشرير النصرة تتحول من مجاهدة إلي كنيسة منتصرة كما رسم الفنان القديس في مكان فسيح لأن مسكنه أصبح في الأبدية والأبدية لا حدود لها.وإذا دققنا النظر في الأيقونة نجد أن القديس قد صور بكلتا العينين دليل علي البصيرة الروحية التي تمتع بها وأنف دقيقة وفم دقيق دليل علي أن هؤلاء عاشوا زاهدين في الحياة ولم يكن إلههم بطونهم كما ترتسم علي الشفاه ابتسامة رقيقة بدون ظهور أسنان القديس علامة علي أن فرح ذلك القديس كان فرحا روحيا وليس من العالم.أما الأشرار فيرسمون من الجانب فقط ولا تظهر منهم سوي عين واحدة دليلا علي نقص البصيرة الروحية عندهم وتفضيلهم للأمور المادية عن الأبدية,.وبالطبع كما عودنا الفنان القبطي فإنه رسم هالة من النور علي رأسه وهذا مأخوذ من الفن الروماني حيث كان يرسم الإمبراطور وحول رأسه هذه الهالة لتفرقته عن بقية الأشخاص في اللوحة وإظهار كرامة المجد الذي حصل عليه من خلال اتباعه للسيد المسيح له المجد.
يذكر لنا التقليد في أن كنيسة القديس أبسخيرون بالبيهو هي كنيسة القديس أبسخيرون التي كانت بقلين (بمحافظة كفر الشيخ) نقلها القديس إلي البيهو بمحافظة المنيا بالصعيد,ولازالت قائمة إلي اليوم.قيل إن أهل قلين اعتادوا أن يعينوا ليلة محددة لإقامة عدد من الزيجات معا,ربما بسبب صعوبة المواصلات في ذلك الوقت,ولتوافقها بوقت جمع المحاصيل.وفي أحد هذه الاحتفالات إذ كان حوالي مائة شخص مجتمعين في الكنيسة -في الجانب الأيسر من الأيقونة يظهر لنا الفنان القبطي بصورة جميلة رسم سبع عرائس داخل الكنيسة- كان عدو الخير قد أثار الرومان عليهم وكان المؤمنون في هذه المدينة يتشفعون دائما بالقديس أبسخيرون الذي من بلدتهم وأثناء الليل قبل أن ينفذ الرومان ما في نيتهم نقلت الكنيسة بمن هم فيها إلي البيهو بصعيد مصر.وفي الصباح خرج الناس من الكنيسة ليجدوا أنفسهم في بلد غير بلدهم.ظهر لهم القديس دون أن يعرفوه,وسار معهم حتي شاطئ النيل وهو في ملابس ضابط,وإذ ركبوا سفينة وصلوا إلي قلين في يوم واحد بدلا من ثلاثة أيام,فتعجب صاحب السفينة وآمن بالمسيحية,وفي قلين لم يجدوا الكنيسة (لا يزال مكانها بركة ماء تسمي بحيرة القليني) و توجد حتي الآن في كنيسة الشهيد في قرية البيهو البكرة الحديدية والساري الخشبي للمركب التي أعادت العرائس من البيهو إلي قلين,إذ يقال نقلا عن قصص شيوخ القرية من البيهو إن صاحب المركب عاهد نفسه أمام الله أن يهب نصف إيراد المركب للكنيسة طوال حياته,وكذلك سار علي هذا المنهج وبعد أن تهالكت المركب قدم نصفها للكنيسة.
وأما عن الجمال الذي يظهر أسفل القديس من الجانب الأيمن,يحاول الفنان القبطي أن يظهر لنا كيف أن هذا الجمال وهو أحد سكان قرية البيهو الذي كان عليه نذر دائم حيث كان يقدم لكنيسة الشهيد المولود الأول لكل ناقة عنده حيث تشفع بالقديس في شفاء عقم ناقاته وبشفاعة القديس شفيت جميعها.
عندما تحتفل الكنيسة بأعياد الشهداء عامة وعيد النيروز خاصة إنما تقدم لنا نماذج للبطولة وللصبر,وللثبات علي الإيمان ولمحبة المسيح,والارتباط بالإيمان به وعدم التفريط في العقيدة وعدم التزعزع,وحتي تكون باستمرار أمثال هذه الأعياد حافزا لنا أن نكون نحن أيضا ثابتين علي إيماننا,إذا تعرضت حياتنا لنوع من الضيق أو الألم أو الاضطهاد,فنتخذ من صبر آبائنا ومن ثباتهم علي الإيمان نموذجا ومثلا أعلي.قال قداسة البابا شنودة الثالث كثير من الناس يعطون لكن الذي يعطي حياته هو أعظم من هؤلاء جميعا,فالبعض يعطي جزءا من ماله والآخر يعطي كل ماله,ولكن أعظمهم من يعطي حياته بحب,مثلما قال مخلصنا الصالح:ليس حب أعظم من هذا أن يبذل أحد نفسه عن أحبائه (أنجيل يوحنا 13:15).