تعودنا في مناسبة عيد الميلاد أن نضع تحت الشجرة المضيئة والمزينة بكل أنواع الزينة نقيم مغارة بها ما يشير إلي الأم العذراء والطفل الصغير أمامها في مذود ونضيف بجوارها الرجل العظيم خطيب العذراء وقدام الطفل أشكال تشير إلي جماعة من الرعاة وعلي مسافة منهم ملوك من المشرق قطعوا المسافة الطويلة علي هدي نجم قادهم إلي حيث الحدث العظيم.
وفي هذا المقام نستطلع وقع الميلاد العظيم في عيون مختلف الناس الذين كانت له علاقة بمولد المسيح لعلنا نصل إلي واقعنا المعاش ونعرف من أبناء جيلنا ماذا يعني الميلاد بالنسبة لهم.
ولنبدأ بلقاء مع العذراء القديسة المطوبة مريم, نعم إنها فتاة تنحدر من نسل داود ولكن لم يعد لهذه الأسرة الملوكية أي صلة بالحكم, فقد كان الملك قد غادر هذه الأسرة لنحو خمسمائة عام إلا أن الشعب اليهودي كان ينتظر مولد المخلص والذي سيأتي من نسل داود.
والعذراء مريم تنحدر من نسل ناثان ابن داود وكانت العذراء مريم فتاة نقية وتقية منذ طفولتها. لهذه الفتاة المباركة جاءها جبرائيل الملاك ليخبرها نبأ اختيارها أن تكون اليوم الأم لمن انتظرته البشرية طوال القرون الماضية, ولنا أن نتصور اضطرابها وخوفها الممزوج بالخبر السار لكل البشرية. كيف ستخبر أسرتها, وكيف سيكون وقع الخبر علي خطيبها, وكيف سيصفها الجيران وكل من يسمع الخبر؟!. أما تجاوب الفتاة الصغيرة السن والبسيطة التفكير فقد جاءت في كلمات لا ينطق بها غير الحكماء المؤمنين بل والقديسين فبعد تساؤلها أجابت ليكن لي كقولك لقد ظهر في عيني العذراء قبولها بل وامتنانها وابتهاجها باختيار الله لها أن تكون الأم العذراء المطوبة من جميع الأجيال وتبقي الفريدة في مكانتها والوحيدة في رسالتها والمطوبة من البشرية جمعاء.
الميلاد في عيني يوسف النجار. لاشك أن الفتاة العذراء التي أسرعت لزيارة قريبتها أليصابات والتي كانت زوجة لزكريا الكاهن وقد حبلت في شيخوختها لولادة المعمدان, ومن الطبيعي أن تقلق العذراء عما يفكر فيه خطيبها يوسف, وكيف سيتقبل خبر حبلها وهي مخطوبة ولم تعرف رجلا. كان بالطبع هم مزعج لفتاة صغيرة. أما عناية الله التي تبدد الخوف والقلق فقد أرسل الله ملاكا إلي يوسف ليبشره بما بشرت به خطيبته حتي بعد أن فكر يوسف تفكيرا خاطئا من جهة خطيبته, ولنا أن نقبل هذا الشعور الذي تسرب إليه حتي إنه أراد أن يتخلي عن وعده لمريم ويفسخ الخطبة ولكن بطريقة غير معلنة يظل هذا الفسخ سرا بينهما. أما وقد جاءه ملاك بأول جملة له قائلا لا تخف يا يوسف نعم إن ميلاد المسيح يبدد الخوف, فكيف يخاف يوسف إذا عرف أن وعد الله قطعه منذ بداية الخلق عندما قال لآدم وحواء بأن نسل المرأة يسحق رأس الحية التي كانت سببا في سقوط الإنسان وطرده من جنة عدن وها هو نسل الإنسان يأتي من يرد البشرية إلي فردوس يفوق جنة عدن وكل جنات الدنيا, وقد عاد إلي يوسف سلامه وبدل الحزن حل الفرح وبدل اليأس حل الرجاء.
ومن الأسرة الصغيرة مريم ويوسف وأليصابات العمة التي رحبت ببشري الميلاد لا سيما عندما شعرت أن الجنين في بطن العمة يتحرك حركة غير عادية ربما تعبيرا عن الفرح أو السجود أو الإكرام لجنين متفرد لم يتكرر ولن يولد مثله.
هناك جماعة من الرعاة كانوا يسهرون علي حراسة رعيتهم وفجأة تفتح السماء أبوابها وبنور غير مألوف وأنغام موسيقية وألحان ملائكية تبشر بمولد المسيح حتي إنهم تركوا رعيتهم وانطلقوا مسرعين حيث أخبرهم الملاك عن موضع الوليد الفريد, فها هي السماء تعلن عن مولد المسيح لكل حسب قدراته. إنهم رعاة بسطاء كانوا في حاجة إلي إعلان مباشر وبأسلوب واضح يتناسب مع ثقافتهم فامتلأوا فرحا وأسرعوا حيث كان الوليد وهناك سجدوا له. نعم لم يكن لديهم ما يقدمونه ولكنهم قدموا أفضل ما يمكن تقديمه إذ قدموا نفوسهم خشوعا وتعبدا.
والنوعيةالأخري من البشر كانت جماعة العلماء والحكماء ودارسي الكواكب والنجوم فجاءهم الخبر علي مستوي ثقافتهم ومداركهم بنجم متميز ظهر لهم وقاد مسيرتهم إلي حيث كان الصبي وهناك قدموا له هداياهم الفاخرة وذات المعني والمغزي الذي يدل علي أن الوليد الجديد ولد مناسبا لكل الأجيال والمستويات للأغنياء والفقراء للأموات قبل الأحياء.
وماذا عن وقع خبر الميلاد في قصر السلطة وكرسي الحاكم الذي عرف بقسوته وكبريائه وعنفه حتي إنه لم يشفق علي أقرب الناس إليه كالزوجة والأبناء, فماذا يكون وقع مولد بشر ملك وصاحب سلطان.
إن ميلاد المسيح في عيون أصحاب السلطان الذين لا يقبلون شخصا آخر يتمتع بسلطة تهدد بقاءهم في الكراسي. فعندما فشل هيرودس في الوصول إلي الطفل أرسل ليقتل كل أطفال المنطقة من ابن سنتين إلي ما هو دون ذلك ليضمن تماما أن الوليد المبشر به قد مات بين سائر أطفال جيله. يالها من كارثة فكيف يكون يوم مولد من جاء لحياة أفضل يقتل أطفال بلا ذنب وهو الذي أحب الأطفال وها هم يقتلون بالسيف بسبب مولده. نعم إنها حكمة الله وقسوة الإنسان وظلمه وكبريائه وكراهيته وخطيته ولهذا ولد المسيح ليقود إلي الحب والحياة الأبدية رغم شرور العالم وتجبر الإنسان.
وأخيرا ماذا عن أطفال يموتون وآباء وأمهات ينوحون وهم يرون أطفالهم يذبحون؟ وقبل أن نتحدث عن حدث مضي عليه أكثر من ألفي عام. فماذا نقول عن قتل أطفال اليوم والأمس وما قبله, فها هم أطفال العراق في الكنيسة وفي الأسواق يموتون بلا ذنب, وكذلك أطفال فلسطين وضحايا دارفور بل وفي كل ركن من عالمنا ومع دوران الشمس أو الساعة يروح ضحايا الشر والأحقاد والكراهية والقسوة والظلم ولا نجد جوابا للعيون الباكية التي تملأ دنيانا ولا نملك إلا أن نقول ليتنا جميعا نعرف رسالة مولود بيت لحم إنه جاء ليمسح الدموع وجاء ليعم السلام لكل من يعرف معني ورسالة ميلاده ليقبل رسالته ويرنم مع ملائكة السماء.
المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام وبالناس المسرة.