يختلف المصريون علي قراءة التاريخ, ليس فقط القديم والوسيط, ولكن الحديث والمعاصر أيضا. مصدر الاختلاف الرئيسي يأتي من المدخل لقراءة هذا التاريخ وتحليل أحداثه, هل من زاوية وطنية أم زاوية دينية.
ومما يؤسف له أن الاهواء والانحيازات الدينية تؤثر علي قراءة التاريخ وانتقائية أحداثه عند كل من المسلمين والأقباط. ولكن الخطر يكمن عندما يتعدي الموضوع مسألة الانحيازات والانتقائية إلي مرحلة التزييف والتزوير, والأخطر أن يتبني الموقف الرسمي للدولة ترويج هذا التاريخ المزيف… وهذا ما حدث ويحدث للأسف في مصر.
في قصة المعلم يعقوب أو الجنرال يعقوب(1745-1801) تبدو أمامك كل هذه القراءات المختلفة للتاريخ.
عند الأقباط المعلم يعقوب بطل قبطي وبطل مصري, بطل قبطي لأنه كون قوة قبطية مدربة ومجهزة لحماية نفسه وحمايتهم من هجوم الرعاع والغوغاء عليهم, وبطل مصري لأنه صاحب أول مشروع حقيقي لاستقلال مصر عن العثمانيين والمماليك والفرنسيين كذلك, ولأنه أول من كون جيشا وطنيا مصريا يتشكل من المصريين من الصعايدة والفلاحين ويتساوي فيه المسلم والقبطي, والذي كان محروما من حمل السلاح منذ الغزو العربي لمصر وحتي تكوين هذا الفيلق القبطي.
عند المؤرخين المسلمين المنصفين المحترمين, الجنرال يعقوب شخصية مصرية وطنية حيث يعد أول مصري طرح مشروعا متكاملا لاستقلال مصر عن كل القوي الخارجية, وصاحب رؤية ثاقبة لمستقبل مصر السياسي والاقتصادي.
عند كثير من المسلمين الشعبويين والإسلاميين المتعصبين, الجنرال يعقوب خائن لأنه راهن علي الأجنبي ,علي حد زعمهم, في مواجهة دولة الخلافة الإسلامية التركية, ولأنه تجرأ علي تكوين قوة قبطية تحمل السلاح وتواجه المعتدين من المسلمين, وتخل بالمعادلة التقليدية: المسلم في مواجهة الذمي.
المشكلة تأتي عندما تتبني الدولة موقف الشعبويين وغلاة المتعصبين .. وهذا ما حدث بالفعل في موقفها من الجنرال يعقوب.
فقد نشرت مؤخرا الهيئة العامة لقصور الثقافة التابعة لوزارة الثقافة المصرية نسخة شعبية رخيصة الثمن من كتاب أحمد حسين الصاوي المعنون #### المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة##, والذي يروج للفكر الشعبوي عن خيانة الجنرال يعقوب وللفكر المتعصب عن تعاون الأقباط مع الاحتلال الغربي لمصر, وهي أمور مجافية تماما للحقيقة. والغريب أن رئيس تحرير هذه السلسلة أسامة عفيفي كتب في مقدمة الكتاب
## مؤرخو التاريخ المصري الحديث أجمعوا علي خيانة المعلم يعقوب لتعاونه مع المحتل, وأن وثائق المحتل نفسه كشفت دوره في التآمر علي المقاومة الشعبية المصرية##… وهذه الجملة من أولها إلي آخرها لا تمت للحقيقة بصلة,ويؤسفني القول إنها جملة تحريضية مختلقة, كما أن نشر وزارة الثقافة لهذا الكتاب يأتي في سياق التزييف الرسمي للتاريخ الوطني الحقيقي للمصريين.
لن أتحدث عن الكتابات القبطية التي تناولت الجنرال يعقوب حتي نبعد شبهة الانحياز, ولأن معظمها اعتمد بشكل رئيسي علي كتابات شيخ مؤرخي مصر الحديثة الدكتور محمد شفيق غربال.كما أن الوثائق الأجنبية التي يتحدث عنها السيد أسامة عفيفي سواء كانت في محفوظات وزارة الخارجية الفرنسية أو وزارة الخارجية البريطانية أووزارة الحربية الفرنسية, ومحفوظات بلدية مارسيليا وكتابات المؤرخ الفرنسي جورج دوان هي التي انصفت المعلم يعقوب.
كما هو معلوم للمتابعين للموضوع إنه في 17 سبتمبر 1801 سلم لاسكاريس, مترجم الجنرال يعقوب, مذكرة بمواد مشروع يعقوب لاستقلال مصر لجوزيف إدموندز ,ربان البارجة الانجليزية بالاس, لرفعها إلي الحكومة البريطانية. وقد نشر هذه الأوراق المؤرخ الفرنسي جورج داون في سنة .1924 وعثر عليها شفيق غربال في محفوظات الخارجية البريطانية أثناء إعداده لرسالة الدكتوراه وترجمها للعربية ونشرها كملحق لرسالته بعنوان ## الجنرال يعقوب والفارس لاسكاريس ومشروع استقلال مصر في سنة 1801##, ونشرت بدار المعارف عام .1932
هناك ثلاثة مسائل جدلية مرتبطة بالجنرال يعقوب وهي: تكوين الفيلق القبطي, ومشروع استقلال مصر, والتعاون مع الفرنسيين .. وسوف أتناولها باختصار شديد ووفقا لما كتبه المؤرخون المسلمون المنصفون.
الفيلق القبطي
هذا الفيلق تكون مباشرة بعد الاعتداءات الهمجية علي الأقباط التي قادها التركي نصوح باشا وغيره من المغاربة والحجازية في مارس عام 1800 , حيث نادي نصوح باشا وقتها ## اقتلوا النصاري وجاهدوا فيهم## ويحدثنا الجبرتي عن هول المآسي التي حدثت للأقباط , وفي أبريل 1800 وبعد هذه الواقعة مباشرة ظهر الفيلق القبطي. هذا الفيلق تم تكوينه وتدريبه علي نفقة المعلم يعقوب الخاصة. بعد ثلاثة أشهر من توقيع معاهدة العريش لجلاء الفرنسيين عن مصر والتي وقعت في يناير .1800 وكان موجها بالأساس ضد المماليك والعثمانيين وبعض الرعاع الذين يعتدون علي الأقباط. هذا الفيلق أتاح للأقباط لأول مرة منذ غزو العرب لمصر حمل السلاح والدفاع عن أنفسهم. تتراوح تقديرات المؤرخين للفيلق بين 800 إلي 2000 فرد مدرب علي الأسلحة الحديثة بواسطة الضباط الفرنسيين, كما يصفه محمد شفيق غربال يعد ##أول جيش كون من أبناء البلاد منذ زوال الفراعنة## ويواصل محمد شفيق غربال وصف هذا الفيلق بقوله ##وكان وجود الفرقة القبطية إذن أول شرط أساسي يمكن رجلا من أفراد الأمة المصرية, يتبعه جند من أهل الفلاحة والصناعة, من أن يكون له أثر في أحوال هذه الأمة إذا تركها الفرنسيون وعادت للعثمانيين والمماليك يتنازعونها ويعيثون فيها فسادا, علي الرغم من أنه لا ينتمي لأهل السيف من المماليك والعثمانيين. وبغير هذه القوة يبقي المصريون حيثما كانوا بالأمس: الصبر علي مضض أو الالتجاء لوساطة المشايخ أو الهياج الشعبي الذي لا يؤدي لتغيير جوهري والذي يدفعون هم ثمنه دون سواهم. وهنا الفرق الأكبر بين يعقوب وعمر مكرم: يعقوب يرمي إلي الاعتماد علي القوة المدربة, بينما السيد عمر يعتمد علي الهياج الشعبي الذي تسهل إثارته ولا يسهل كبح جماحه; إذ أن يعقوب لا يريد عودة المماليك والعثمانيين وإنما يعمل علي أن تكون لفئة من المصريين يد في تقرير مصير البلاد##.
مشروع استقلال مصر
الفيلق القبطي كان واقعا موجودا أما استقلال مصر فكان مشروعا وحلما عند الجنرال يعقوب, وهو المشروع الذي حمله عن يعقوب الفارس لاسكاريس وترجمه المؤرخ الكبير شفيق غربال حيث وصف خروج يعقوب بقوله
## خرج لتحقيق مشروع خطير وهو السعي لدي الحكومات الأوربية لتقرير استقلال مصر##, وتنطلق حجية المشروع كما ذكرها المعلم يعقوب في ## جشع العثمانيين المالي, وعنف التخريب المماليكي, وفشل الحملة الفرنسية لتفوق الأسطول الإنجليزي.. وذلك هو جوهر الوثيقة التي بنت علي تلك الأسس حججها في استقلال مصر وحيادها##. ويشكل هذا المشروع أول رؤية مصرية خالصة للاستقلال منذ عصر الفراعنة. مشروع مصري خالص لم يعثر فيه مطلقا علي كلمة قبطي بل كان رؤية وطنية مصرية. كان أول عمل سياسي يحاول جعل المسألة المصرية مسألة دولية كما يقول محمد فهمي عبد اللطيف في جريدة البلاغ بتاريخ 22 ديسمبر .1947 كان مشروعا متكاملا يشمل استقلال مصر وحيادها السياسي وتنميتها لتصبح مركزا للتجارة الدولية,أي يحمل رؤية متكاملة لمستقبل مصر. ويظهر تأثير الحملة الفرنسية الإيجابي علي الفكر المصري في الحرية والاستقلال والذي مهد لاحقا لظهور محمد علي باشا.
التعاون مع الفرنسيين
نعم تعاون الجنرال يعقوب اقتصاديا وعسكريا مع الفرنسيين كما تعاون من قبل مع الأتراك ومع المماليك.. مثله في ذلك مثل الشيخ الشرقاوي والجبرتي وكلاهما تعاون مع الفرنسيين.. ومنذ سقوط دولة الفراعنة, كانت مصر دائما تحت الاحتلال,ولا يختلف الاحتلال الفرنسي عن الاحتلال العثماني.. ومصطفي كامل كان في مقدمة من تعاونوا مع الاحتلال العثماني وكان يدافع عنه باستمرار, فهل كان مصطفي كاملا خائنا؟ وهل كان عزيز باشا المصري, الذي تعاون مع الألمان ضد الإنجليز, خائنا؟.
لم يختلف الجنرال يعقوب عن ملايين المصريين الذين تعاونوا مع الاحتلال الأجنبي لمصر عبر تاريخها الطويل, ولكنه اختلف عن الكثيرين بأنه أول من حلم في العصر الحديث باستقلال مصر تماما عن كل القوي الأجنبية.. وهو بهذا يعد رائدا لمبدأ
## مصر للمصريين## والذي تبنته الحركة الوطنية فيما بعد.
[email protected]